الفصل الثالث من الكتاب الاخضر

الفصل الثالث من الكتاب الاخضر – الركن الاجتماعي

بقلم :معمر القذافي

الأسرة
القبيلة
الأمة
المرأة
الأقليات
السود
التعليم
الألحان والفنون
الرياضة و الفروسية و العروض

إن المحرك للتاريخ الإنساني هو العامل الاجتماعي…أي القومي ، فالرابطة الاجتماعية التي تربط الجماعات البشرية كلاً على حدة … من الأسرة إلى القبيلة إلى الأمة هي أساس حركة التاريخ . ( إن أبطال التاريخ هم أفراد يضحون من أجل قضايا ). ليـس هناك أي تعريف آخر لذلك. ولكن أي قضايا؟ إنهم يضحون من أجل آخرين… ولكن أي آخرين؟ إنهم الآخرون الذين لهم علاقة بهم .. وإن العلاقة بين فرد وجماعة هي علاقة اجتماعية… أي علاقة قوم ببعضهم بعضا . فالأساس الذي كون القوم هو القومية ، إذن ، تلك القضايا هي قضايا قومية … والعلاقة القومية هي العلاقة الاجتماعية فالاجتماعية مشتقة من الجماعة ، أي علاقة الجماعة فيما بينها.والقومية مشتقة من القوم،أي علاقة القوم فيما بينهم ، فالعلاقة الاجتماعية هي العلاقة القومية .. والعلاقة القومية هي العلاقة الاجتماعية … إذ إن الجماعة هي قوم ، والقوم هم الجماعة حتى إذا قل عدد الواحدة عن الأخرى . ناهيك عن التعريف التفصيلي الذي يعني الجماعة المؤقتة بغض النظر عن علاقات أفرادها القومية . إن المقصود بالجماعة هنا هو الجماعة الدائمة بسبب علاقتها القومية .
ثم ، إن الحركات التاريخية هي الحركات الجماهيرية أي الجماعية .. أي، حركة الجماعة من أجل نفسها.. من أجل استقـلالها عن جماعة أخرى ليست جماعتها ، أي لكل منهما تكوين اجتماعي يربطها بنفسها . فالحركات الجماعية دائماً هي حركات استقلالية ..حركات لتحقيق الذات للجماعة المغلوبة أو المظلومة … من طرف جماعة أخرى ، أما مسألة الصراع على السلطة فهو يقع داخل الجماعة ذاتها حتى مستوى الأسرة ، كما يوضحه الفصل الأول من الكتاب الأخضر الركن السياسي للنظرية العالمية الثالثة . والحركة الجماعية هي حركة قوم من أجل، نفسها إذ إن الجماعة الواحدة بحكم تكوينها الطبيعي الواحد لها حاجات اجتماعية واحدة تحتاج إلى إشباع بحالة جماعية . وهي ليست فردية على أي وجه ، بل هي حاجات أو حقوق أو مطالب أو غايات جماعية صاحبها قـوم تربطهم قومية واحدة . ولذا سميت هذه الحركات بالحركات القومية . فحركات التحرر القومي في العصر الحاضر هي نفسها الحركات الاجتماعية ، وهي لن تنتهي حتى تتحرر كل جماعة من سيطرة أي جماعة أخرى . أي أن العالم الآن يمر بإحدى دورات حركة التاريخ العادية وهي الصراع القومي انتصاراً للقومية .
هذه هي الحقيقة التاريخية في عالم الإنسان وهي الحقيقة الاجتماعية ، أي أن الصراع القومي .. الصراع الاجتماعي هو أساس حركة التاريخ ، لأنه أقوى من كل العوامل الأخرى ، ذلك لأنه هو الأصل، هو الأساس ..أي أنه هو طبيعة الجماعة البشرية ، طبيعة القوم ، بل هو طبيعة الحياة نفسها ، إذ إن الحيوانات الأخرى من غير الإنسان تعيش في جماعات ، وإن الجماعة هي أساس بقاء جماعات المملكة الحيوانية . والقومية هي أساس بقاء الأمم .
إن الأمم التي تحطمت قوميتها هي التي تعرض وجودها للدمار. إن الأقليات التي هي إحدى المشكلات السياسية في العالم سببها اجتماعي فهي أمم تحطمت قوميتها فتقطعت أوصالها. فالعامل الاجتماعي عامل حياة … عامل بقاء ، ولهذا فهو محرك طبيعي وذاتي للقوم من أجل البقاء .
القومية في عالم الإنسان والحيوان مثل الجاذبية في عالم الجماد والأجرام فلو تحطمت جاذبية الشمس لتطايرت غازاتها وفقـدت وحدتها ، ووحدتها هي أساس بقائها ، إذن ، البقاء أساسه عامل وحدة الشيء . وعـامل وحـدة أي جماعة هو العامل الاجتماعي ، أي القومية . ولهذا السبب تكافح الجماعات من أجل وحدتها القومية ، لأن في ذلك بقاءها ; والعامل القومي … الرابطة الاجتماعية يعمل تلقائياً على دفع القـوم الواحد نحو البقاء مثلما تعمل جاذبية الشيء تلقائياً على بقائه كتلة واحدة حول النواة. إن انتشار الذرات وتطايرها في نظرية القنبلة الذرية ناشيء من تفجيـر النواة مصدر الجذب للذرات التي حولها ، فعندما يدمر عامل الوحدة لتلك الأجسام وتفقد الجاذبية تطير كل ذرة على حدة ، وتنتهي القنبلة إلى تطاير ذرات وما يصحبها . هذه هي طبيعة الأشياء . إن هذا قانون طبيعي ثابت وتجاهله أو الاصطدام به يفسد الحياة . وهكذا تفسد حياة الإنسان عندما يبـدأ تجاهل القومية .. العامل الاجتماعي … جاذبيـة الجماعة سر بقائها .. أو عندما يبدأ الاصطدام به ، وليس هناك مـن منافس للعامل الاجتماعي في التأثير على وحدة الجماعة الواحدة إلا العامل الديني الذي قد يقسم الجماعة القومية ، والذي قد يوحد جماعات ذات قوميات مختلفة . بيد أن العامل الاجتماعي هو الذي يتغلب في النهاية
هكذا حدث في كل العصور. تاريخياً لكل قوم دين . إن ذلك هو الانسجام .ولكن واقعياً هناك اختلاف ، وهو سبب حقيقي للنزاع وعدم استقرار حياة الشعوب في مختلف العصور أيضاً.
القاعدة السليمة هي أن لكل قوم ديناً، والشذوذ هو خـلاف ذلك . والشذوذ هذا خلق واقعاً غير سليم صار سبباً حقيقياً في نشـوب النزاعات داخل الجماعة القـومية الواحدة . وليس من حل إلا الانسجام مع القاعدة الطبيعية التي هي: لكل أمـة دين, حتى ينطبق العامل الاجتماعي مع العامل الديني فيحصل الانسجام ، وتستقر حياة الجماعات وتقوى وتنمو نمواً سليماً .
الزواج عملية تؤثر على العامل الاجتماعي سلباً وإيجاباً . فبالرغم من أنَ كلاً من الرجل والمرأة حرفي قبول من يريد ورفض من لا يريد كقاعدة طبيعية للحرية ، إلا أن الزواج داخل الجماعة الواحدة مقوّ لوحدتهـا بطبيعة الحال ، ويحقق نمواً جماعياً منسجماً مع العامل الاجتماعي.

الأسرة :

فالأسرة بالنسبة للإنسان الفرد أهم من الدولة.. الإنسانية تعـرف الفرد (الإنسان ) والفرد ( الإنسان ) السوي يعرف الأسرة … والأسرة هي مهده ومنشؤه ومظلته الاجتماعية . طبيعياً الإنسانية الفرد والأسرة ، وليس الدولة ..الإنسانية لا تعرف ما يسمى بالدولة …الدولة نظام سياسي واقتصادي اصطناعي وأحياناً عسكري لا علاقة للإنسانية به.. ولا دخل لها فيه . فالأسرة هي تماماً مثل النبتة الواحدة في الطبيعة التي هي أساس النبات الطبيعي .. أما تكييف البيئة الطبيعية إلى مزارع وحدائق وما إليها فهذا إجراء اصطناعي لا صلة له بطبيعة النبتة المتكونة من عدد من الفروع والأوراق والأزهار بما يشبه الأسرة تماماً.
فكون العوامل السياسية والاقتصاديـة أو العسكرية كيفت مجاميع من الأسر في دولة فهذا لا صلة للإنسانية به . وهكذا فأي وضع أو ظرف أو إجراء يؤدي إلى بعثرة الأسرة أو اضمحلالها وضياعها هو وضع غير إنساني وغير طبيعي، بل هو ظرف تعسفي، وهو تماماً مثل أي عمل أو ظرف أو إجراء يؤدي إلى قتل النبتة أو بعثرة فروعها أو إتلاف أزهارها أو أوراقها أو ذبولها.
إن المجتمعات التي يتهدد فيها وجود الأسرة ووحدتها بسبب أي ظرف، هي مثل الحقل النباتي الذي يتهدد نباته بالانجراف أو العطش أو الحرق أو الذبول واليبس. فالحديقة المزهرة أو الحقل المزهر هو الذي تنمو نباتاته نمواً طبيعياً وتزهر وتلقح وتستقر … وكذلك المجتمع الإنساني .
فالمجتمع المزدهر هو الذي ينمو فيه الفرد في الأسرة نمواً طبيعياً ، وتزدهر فيه الأسرة ، ويستقر الفرد في الأسرة البشرية مثل الورقة في الغصن أو مثل الغصن في الشجرة لا معنى له إذا انفصل عنها ولا حياة مادية له . وكذلك الفرد إذا انفصل عن الأسرة ، أي الفرد بلا أسرة ، لا معنى له ولا حياة اجتماعية له ، وإذا وصل المجتمع الإنساني إلى وجود الإنسان بدون أسرة يصبح حينئذ مجتمع صعاليك ، مثله مثل النبات الصناعي.

القبيلة :
القبيلة هي الأسرة بعد أن كبرت نتيجة التوالد..إذن القبيلة هي أسرة كبيرة . والأمة هي القبيلة بعد أن كبرت نتيجة التوالد .. إذن الأمة هي قبيلة كبيرة . والعالم هو الأمة بعد أن تشعبت إلى أمم نتيجة التكاثر . إذن العالم هو أمة كبيرة.
إن العلاقة التي تربط الأسرة هي التي تربط القبيلة وهي التي تربط الأمة ، وهي التي تربط العالم إلا أنها تفتر كلما كثر العدد . فالإنسانية هي القومية . والقومية هي القبلية، والقبلية هي الرابطة الأسرية ، إلا أن درجة حرارتها تبرد من المستوى الصغير إلى المستوى الكبير. هذه حقيقة اجتماعية لا ينكرها إلا الذي يجهلها .
إذن ، الرابطة الاجتماعية والتماسك والوحدة ،والألفة والمحبة أقوى على مستوى الأسرة منه على مستوى القبيلة ، وأقوى على مستوى القبيلة منه على مستوى الأمة وأقوى على مستوى الأمة منه على مستوى العالم .
إن المنافع والمزايا والقيم والمثل العليا المترتبة على تلك الروابط الاجتماعية توجد حيث تكون درجة هذه الروابط قوية بطبيعة الحال ودون شك كبديهية ، أي أنها أقوى على مستوى الأسرة من مستوى القبيلة ، وأقوى على مستوى القبيلة منها على مستوى الأمة ، وعلى مستوى الأمة منها على مستوى العالم . وهكذا تتلاشى أو تفقد تلك الروابط الاجتماعية والمنافع والمزايا والمثل المترتبة عليها كلما تلاشت أو فقدت الأسرة والقبيلة والأمة والإنسانية .
ولذا من المهم جداً للمجتمع الإنساني أَن يحافـظ علـى التمـاسك الأسري والقبلي والقومي والأممي ليستفيد من المنافع والمزايا والقيم والمثل التي يوفرها الترابط والتماسك والوحدة والألفة والمحبة الأسرية والقبلية والقومية والإنسانية.
فالمجتمع الأسري أفضل اجتماعياً من المجتمع القبلي . والمجتمع القبلي أفضل اجتماعياً من المجتمع القومي … والمجتمع القومي أفضل من المجتمع الأممي من حيث الترابط والتراحم والتضامن والمنفعة .
فوائد القبيلة :
من حيث كون القبيلة أسرة كبيرة ، إذن هي توفر لأفرادها ما توفره الأسرة لأفرادها أيضاً من منافع مادية ومزايا اجتماعية . فالقبيلة هي أسرة من الدرجة الثانية . والجدير بالتأكيد هو أن الفرد قد يسلك أحياناً سلوكاً مشيناً لا يستطيعه أمام الأسرة ، ولكـن نظـراً لصغر حجمـها فهو لا يحس برقابتها ، على عكس القبيلة التي لا يشعر أفرادها أنهم في حرية من مراقبتها.
وبنـاء على هذه الاعـتبـارات كـونت القبيلة سلوكاً لأفرادها يتحول إلى تربية اجتماعية أفضل وأنبل من أي تربية مدرسية … والقبيلة مدرسة اجتماعية ينشأ أفرادها منذ الطفولة على تشرب مثل عليا تتحول إلى سلوك حياة تترسخ تلقائياً كلما كبر الإنسان ، على عكس التربية والعلوم التي يتم تلقينها رسمياً والتي تتلاشى تدريجياً كلما كبر الفرد لأنها رسمية ولأنها إجبارية ، ولأن الفرد يعى أنها ملقنة له.
والقبيلة مظلة اجتماعية طبيعية للضمان الاجتماعي ، فهي توفر لأفرادها بحكم التقاليـد القبليـة الاجتماعيـة ديـة جماعية وغرامة جماعية وثأراً جماعياً ودفاعاً جماعياً ، أي حماية اجتماعية …
إن الدم هو الأصل في تكوين القبيلة ، ولكنها لا تتوقف عليه هو فقط , فالانتماء هو أيضاً من مكونات القبيلة. وبمرور الزمن تتلاشى الفروق بين مكونات الدم ومكونات الانتماء ، وتبقى القبيلة وحدة اجتماعية ومادية واحدة ، ولكنها وحدة دم وأصل أكثر من أي تكوين آخر .

الأمـــة :
الأمة هي مظلة سياسية قومية للفرد أبعد من المظلة الاجتماعية التي توفرها القبيلة لأفرادها… والقبلية هي إفساد القومية ، فالولاء القبلي يضعف الولاء القومي ويكون على حسابه.مثلما الـولاء العائلي يكون على حساب الولاء القبلي فيضعفه كذلك . والتعصب القومي بقدر ما هو ضروري للأمة هو مهدد للإنسانية.
إن الأمة في المجتمع الدولي هي مثل الأسرة في القبيلة ، فكلما تناحرت عائلات القبيلة الواحدة وتعصبت لنفسها تهددت القبيلة بطبيعة الحال . مثل أفراد الأسرة الواحدة إذا تناحروا وتعصب كل فرد لذاته تهددت الأسرة . وإذا تناحرت قبائل الأمة وتعصبت كل قبيلة لنفسها تهددت تلك الأمة ، والتعصب القومي واستخدام القوة القومية ضد الأمة غير القوية أو التقدم القومي نتيجة استحواذ ما لأمة أخرى هو شر وضار للإنسانية . ومع هذا فالفرد القوي والمحترم لذاته والمدرك لمسؤولياته الفردية مهم ونافع للأسرة . والأسرة المحترمة والقوية المدركة لأهميتها مفيدة اجتماعياً ومادياً للقبيلة . والأمة المتقدمة والمنتجة والمتحضرة مفيدة للعالم كله. والبناء السياسي والقومي يفسد إذا نزل إلى المستوى الاجتماعي ، أي المستوى العائلي والقبلي وتفاعل معه وأخذ اعتباراته .
بما أن الأمة عبارة عن أسرة كبيرة بعد أن مرت بمرحلة القبيلة وتعدد القبائل المتفرعة من أصل واحد ، وكذلك المنتمية إلى ذلك الأصل انتماء مصيرياً .
والأسرة لا تصير أمة إلا بعد مرورها بمراحل القبيلة وتفرعها ومرحلة الانتماء نتيجـة الاختلاط المختلف … وذلك يتحقق حتماً اجتماعياً بعد زمن لا يمكن إلا أن يكون طويلاً . ومع هذا ، فإن طول الزمن كما ينشئ أمماً جديدة يساعد على تفتيت أمم قديمة ، ولكن الأصل الواحد والانتماء المصيري هما الأساسان التاريخيان لأي أمة . ويبقى الأصل في المرتبة الأولى والانتماء في المرتبة الثانية ، فالأمة ليست أصلاً فقط ،حتى وإن كان الأصل هو أساسها ومنشأها ، ولكن الأمة علاوة على ذلك هي تراكمات تاريخية بشرية تجعل مجموعة من الناس تعيش على رقعة واحدة من الأرض… وتصنع تاريخا واحداً… ويتكون لها تراث واحد.. وتصبح تواجه مصيراً واحداً . وهكذا فالأمة بغض النظر عن وحدة الدم هي في النهاية انتماء ومصير .
ولكن لماذا شهدت خريطة الأرض دولاً عظمى ثم اختفت وظهرت على خريطتها دول أخرى والعكس ؟ هل السبب سياسي ولا علاقة له بالركن الاجتماعي للنظرية العالمية الثالثة ، أم السبب اجتماعي ويخص هذا الفصل من الكتاب الأخضر ؟لنر : لا خلاف على أن الأسرة تكوين اجتماعي وليس سياسياً، والقبيلة كذلك، لأنها أسرة توالدت وتكاثرت فأصبحت أسراً عديدة.والأمة هي القبيلة بعد أن كبرت وتعددت أفخاذها وبطونها وتحولت إلى عشائر ثم قبائل.
فالأمة أيضاً تكوين اجتماعي علاقته (القومية)… والقبيلة تكوين اجتماعي علاقته (القبلية)… والأسرة تكوين اجتماعي علاقته (الأسرية). وأمم العالم تكوين اجتماعي علاقته (الإنسانية)..هذه بديهيات . ثم هنـاك تكويـن سيـاسي يكون الدولة هو الذي يشكل خريطة العالم السياسية… ولكن لماذا تتغير خريطة العالم من عصر إلى آخر ؟ السبب هو أن التكوين السياسي هذا قد يكون منطبقا على التكوين الاجتماعي وقد لا يكون كذلك . فعند انطباقه على الأمة الواحدة يدوم ولا يتغير ، وإذا تغير نتيجة استعمار خارجي أو تدنى يعود للظهور مرة أخـرى تحت شعار الكفاح القومي ، أو النهوض القومي ، والوحدة القومية . أما إذا كان التكوين السياسي يجمـع أكثر من أمة ، فإن خريطته تتمزق من جراء استقلال كل أمة تحت شعار قوميتها. وهكذا تمزقت خريطة الإمبراطوريات التي شهدها العالم لأنها تجمع عدة أمم ما تلبث حتى تتعصب كل أمة لقوميتها ، وتطلب الاستقلال فتتمزق الإمبراطورية السياسية لتعود مكوناتها إلى أصولها الاجتماعية، والدليل واضح تمام الوضوح في تاريخ العالم إذا راجعناه في كل عصر من عصوره.
ولكن لماذا تتكون تلك الإمبراطوريات من أمم مختلفة ؟ . الجواب هو أن تكوين الدولة ليس تكويناً اجتماعيـاً فقـط كالأسرة والقبيلة والأمة، فالدولة كيان سياسي تخلقه عدة عوامل أبسطها وأولها القومية . فالدولة القومية هي الشكل السياسي الوحيد المنسجم مع التكوين الاجتماعي الطبيعي وهي التي يدوم بقاؤها ما لم تتعرض لطغيان قومية أخرى أقـوى منهـا، أو أن يتـأثر تكوينهـا السيـاسي كدولة بتكوينهـا الاجتمـاعي كقبائل وعشائر وأسر. فلو خضع التكوين السياسي للتكوين الاجتماعي العائلي والقبلي أو الطائفي وأخذ اعتباراته لفسد.
أما العوامل الأخرى لتكوين الدولة غير الدولة البسيطة ( الدولة القومية ) فهي عوامل دينية واقتصادية وعسكرية .
فالدين الواحد قد يكون دولة من عدة قوميات… والضرورة الاقتصادية كذلك … والفتوحات العسكرية أيضاً… وهكذا يشهد العالم في عصر ما تلك الدولة أو الإمبراطورية ، ثم يراها قد اختفت في عصر آخر.فعندما تظهر الروح القومية أقوى من الروح الدينية ، ويشتد الصراع بين القوميات المختلفة التي يجمعها دين واحد مثلاً ، تستقل كل أمة راجعة إلى تكوينها الاجتماعي فتختفي تلك الإمبراطورية… ثم يأتي الدور الديني مرة أخرى عندما تظهر الروح الدينية أقوى من الروح القوميـة فتتحد القوميـات المختلفة تحت علم الدين الواحد.. حتى يأتي الدور القومي مرة أخرى وهكذا .
فكل الدول المتكونـة من قوميـات مختـلفة بسـبب ديني أو اقتصادي أوعسكري أو عقائدي وضعي سوف يمزقهاالصراع القومي حتى تستقل كل قومية.. أي ينتصر حتماً العامل الاجتماعي علىالعامل السياسي.
وهكذا فبالرغم من الضرورات السياسيةالتي تحتم قيام الدولة ، إلا أن أساس حياة الأفراد هو الأسرة ثم القبيلة ثم الأمة إلىالإنسانية ، فالعامل الأساسي هو العامل الاجتماعي وهو الثابت .. أي القومية.
فيجب التركيز على الحقيقة الاجتماعية والعناية بالأسرة ليظهر الإنسان السوي المربى ، ثم القبيلة كمظلة اجتماعية ومدرسة اجتماعية طبيعية تربي الإنسان اجتماعياً فيما فوق الأسرة ثم الأمة ، إذإن الفرد لا يعرف قيمة القيم الاجتماعية إلا من الأسرة والقبيلة ، وهما التكوين الاجتماعي الطبيعي الذي لا دخل لأحد في صنعه ، العناية بالأسرة من أجل الفرد والقبيلة ، من أجل الأسرة، من أجل الفرد والأمة..أي القومية ، فالعامل الاجتماعي هو المحرك الحقيقي والدائم للتاريخ ( أي العامل القومي ) .
إن تجاهل الرابطة القومية للجماعات البشرية ، وبناء نظام سياسي متعارض مع الوضع الاجتماعي هو بناء مؤقت سيتهدم بحـركـة العـامل الاجتماعي لتلك الجماعات ، أي الحركة القومية لكل أمة.
تلك كلها حقائق معطاة أصلاً في حياة الإنسان ، وليست تصورات اجتهادية، وعلى كل فرد في العالم أن يعيها ويعمل وهو مدرك لها حتى يكون عمله صالحاً. أي من الضروري معرفة هذه الحقائق الثابتة حتى لا يقع انحراف وخلل وإفساد لحياة الجماعات البشرية نتيجة عدم فهم واحترام هذه الأصول للحياة الإنسانية.

المرأة :
المرأة إنسان والرجل إنسان ليس في ذلك خلاف ولا شك . إذن المرأة والرجل متساويان إنسانياً بداهة ، وإن التفريق بين الرجل والمرأة إنسانياً هو ظلم صارخ ليس له مبرر ؛ فالمرأة تأكل وتشرب كما يأكل الرجل ويشرب… والمرأة تكره وتحب كما يكره الرجل ويحب.. والمرأة تفكر وتتعلم وتفهم كما يفكر الرجل ويتعلم ويفهم… والمرأة تحتاج إلى المأوى والملبس والمركوب كما يحتاج الرجل إلى ذلك.. والمرأة تجوع وتعطش كما يجوع الرجل ويعطش.. والمرأة تحيا وتموت كما يحيا الرجل ويموت .ولكن لماذا رجل ولماذا امرأة ؟ أجل. فالمجتمع الإنساني ليس رجالاً فقط ، وليس نساء فقط فهو رجال ونساء .. أي رجل وامرأة بالطبيعة.. لماذا لم يُخلًق رجال فقط .. ولماذا لم يُخلًق نساء فقط .. ثم ما الفرق بين الرجال والنساء أي بين الرجل والمرأة ، لماذا الخليقة اقتضت خلق رجل وامرأة ؟ .. إنه بوجود رجل وامرأة وليس رجل فقط أو امرأة فقط . لا بد أن ثمة ضرورة طبيعية لوجود رجل وامرأة وليس رجل أو امرأة فقط.. إذن ، كل واحد منهما ليس هو الآخر… إذن، هناك فرق طبيعي بين الرجل والمرأة ، والدليل عليه وجود رجل وامرأة بالخليقة..وهذا يعني طبعاً وجود دور لكل واحد منهما يختلف وفقا لإختلاف كل واحد منهماعن الآخر. إذن ، لا بد من ظرف يعيشه كل واحد منهما يؤدي فيه دوره المختلف عن الآخر، ومختلف عن ظرف الآخر باختلاف الدور الطبيعي ذاته. ولكي نتمكن من معرفة هذا الدور.. لنعـرف الخلاف في طبيعة خلق الرجل والمرأة..أي ما هي الفروق الطبيعية بينهما ؟
المرأة أنثى، والرجل ذكر… والمرأة طبقاً لذلك يقول طبيب أمراض النساء .. ( إنها تحيض أو تمرض كل شهر ، والرجل لا يحيض لكونه ذكراً فهو لا يمرض شهرياً (( بالعادة )).وهذا المرض الدوري ، أي كل شهر ،هو نزيف..أي أن المرأة لكونها أنثى تتعرض طبيعياً لمرض نزيف كل شهر.والمرأة إن لم تحض تحمل.. وإذا حملت تصبح بطبيعة الحمل مريضة قرابة سنة.. أي مشلولة النشاط الطبيعي حتى تضع . وعندما تضع أو تجهض فإنها تصاب بمرض النفاس وهو مرض ملازم لكل عملية وضع أو إجهاض . والرجل لا يحمل وبالتالي لا يصاب طبيعياً بهذه الأمراض التي تصاب بها المرأة لكونها أنثى . والمرأة بعد ذلك ترضع ما كـانت تحمله.. والرضاعة الطبيعية قرابة العامين .. والرضاعة الطبيعية تعني أن المرأة يلازمها طفلها وتلازمه بحيث تصبح كذلك مشلولة النشاط ومسؤولة مباشرة عن إنسان آخر هي التي تقوم بمساعدته في القيام بكل الوظائف البيولوجية ، وبدونها يموت. والرجل لا يحمل ولا يرضع ).انتهى شرح الطبيب.
إن هذه المعطيات الطبيعية تكون فروقاً خلقية لا يمكن أن يتساوى فيها الرجل والمرأة… وهي في حد ذاتها حقيقة ضرورة وجود ذكروأنثى أي رجل وامرأة .وإن لكل واحد منهما دوراً أو وظيفة في الحياة مختلفة عن الآخر.. ولا يمكن أن يحل فيها الذكر محل الأنثى على الإطلاق ،أي لا يمكن أن يقوم الرجل بهذه الوظائف الطبيعية بدل المرأة .. والجدير بالاعتبار أن هذه الوظائف البيولوجية عبء ثقيل على المرأة يكلفها جهداً وألماً ليسا هينين. ولكن بدون هذه الوظيفة التي تؤديها المرأة تتوقف الحياة البشرية . أي ، هي وظيفة طبيعية ليست اختيارية وليست إجبارية،ثم هي ضرورية، وبديلها الوحيد توقف الحياة البشرية تماماً.
هناك تدخل إرادي ضد الحمل ، ولكنه هو البديل للحياة البشرية ، وهناك التدخل الإرادي الجزئي ضد الحمل… وهناك التدخل ضد الرضاعة، ولكنها حلقات في سلسلة العمل المضاد للحياة الطبيعية والتي على قمتها القتل… أي ، أن تقتل المرأة ذاتها لكي لا تحمل ولا تنجب ولا ترضع.. لا يخرج عن بقية التدخلات الاصطناعية ضد طبيعة الحياة المتمثلة في الحمل والرضاعة والأمومة والزواج… إلا أنها متفاوتة في درجتها .
إن الاستغناء عن دور المرأة الطبيعي في الأمومة، أي أن تحل دور الحضانة محل الأم – هو بداية الاستغناء عن المجتمع الإنساني وتحويله إلى مجتمع بيولوجي وإلى حياة صناعية.
إن فصل الأطفال عن أمهاتهم وحشرهم في دور الحضانة هو عملية تحويلهم إلى ما يشبه أفراخ الدجاج تماماً ، حيث تشكل دور الحضانة ما يماثل محطات التسمين التي تجمـع فيها الأفراخ بعد تفقيسـها.. إن بني الإنسان لا تصلح له وتناسب طبيعته وتليق بكرامتـه إلا الأمومـة الطبيعية.. أي أن ( الطفل تربيه أمه ) ..
..وأن ينشأ في أسرة فيها أمومة وأبوة وأخوة ..
لا في محطة كمحطة تربية الدواجن … إن الدواجن هي أيضاً تحتاج إلى الأمومة كطور طبيعي مثل بقية أبناء المملكة الحيوانية كلها . ولهذا فتربيتها في محطات تشبه دور الحضانة ضد نموها الطبيعي.. وحتى لحومها أقرب إلى اللحم الصناعي منها إلى اللحم الطبيعي.. إن لحم طيور المحطات غير مستساغ ، وقد لا يكون مفيداً ، لأن طيوره لم تنشأ نشأة طبيعية .. أي ، لم تنشأ في ظل الأمومة الطبيعية . إن الطيور البرية أشهى وأنفع لأنها نمت نمواً أمومياً طبيعياً ، وتتغذى غذاءً طبيعياً .
أما الذين لا أسرة لهم ولا مأوى فالمجتمع هو وليهم . ولمثل هؤلاء فقط يضع المجتمع دور الحضانة وما إليها . أن يتولى هؤلاء المجتمع أفضل من أن يتولاهم الأفراد الذين ليسوا آباءهم .
إذا أجري اختبار طبيعي لمعرفة الاتجاه الطبيعي للطفل بين أمه وبين محطة لتربية الأطفال . فإن الطفل سيتجه إلى أمه وليس إلى المحطة .. وحيث إن الميل الطبيعي للطفل هو نحو أمه… إذن ، الأم هي مظلة الحضانة الطبيعية والصحيحة ..وتوجيهه إلى دار الحضانة بدل أمه هو إجبار له وعسف ضد ميله الطبيعي الحر .
إن النمو الطبيعي للأشياء هو النمو السليم بحرية . أن تجعل من دار الحضانة أماً هو عمل قسري مضاد لحرية النمو السليم . إن الأطفال الذين يساقون إلى دار الحضانة إنما يساقون جبراً.. أو استغفالاً وبلاهة طفولية، ويساقون إليها لأسباب مادية بحتة وليست اجتماعية . ولو رفعت عنهم وسائل الإجبار وبلاهة الطفولة لرفضوا دار الحضانة والتصقوا بأمهاتهم ، وليس هنـاك مبـرر لـهذه العمليـة غير الطبيعية وغير الإنسانية، إلا أن المرأة ليست في وضع يناسب طبيعتها.. أي أنها مضطرة إلى القيام بواجبات غير اجتماعية ومضادة للأمومة .
إن المرأة وفقاً لطبيعتها التي رتبت عليها دوراً طبيعياً غير دور الرجل لا بد لها من وضع غير وضع الرجل تقوم فيه بأداء دورها الطبيعي .
إن الأمومة وظيفة الأنثى وليست وظيفة الذكر ، ولهذا فمن الطبيعي ألاَ يفصل الأبناء عن الأم … وأي إجراء لفصل الأبناء عن الأم هو عسف وقهر ودكتاتورية . وإن الأم التي تتخلى عن الأمومة تجاه أبنائها تخالف دورها الطبيعي في الحياة . ويجب أن تتوفر لها الحقوق والظروف الملائمة الخالية كذلك من العسف والقهر الذي يجعل المرأة تمارس دورها الطبيعي في ظروف غير طبيعية، الوضع الذي يتناقض مع بعضه بعضاً.
فإذا تخلت المرأة عن دورها الطبيعي في الولادة والأمومة مضطرة ، إذن مورس عليها القهر والدكتاتورية . إن المرأة المحتاجة إلى عمل يجعلها غير قادرة على أداء مهمتها الطبيعية هي غير حرة ومجبرة على ذلك بفعل الحاجة …إذ إنه في الحاجة تكمن الحرية .
ومن الظروف الملائمة والتي تكون ضرورية أيضاً للمرأة كي يتسنى لها أداء مهمتها الطبيعية ، والتي تختلف عن الرجل ، هي تلك الظروف التي تناسب إنساناً مريضاً مثقلا بداء الحمل .. أي حمل إنسان آخر في أحشائه يعجزه عن مستوى الكفاءة المادية . ومن الجور أن نضع المرأة التي هذا هو حالها في إحدى مراحل الأمومة في ظرف لا يتفق مع هذه الحالة كالعمل البدني الذي هو عبارة عن عقوبة للمرأة مقابل خيانتها الإنسانية للأمومة ، وهو أيضاً عبارة عن ضريبة تدفعها لتدخل عالم الرجال الذين ليسوا طبعاً من جنسها .
إن المرأة التي يعتقد – بمن فيهم هي – أنها تمارس العمل البدني بمحض إرادتها هي ليست كذلك في حقيقة الحال .. إذ إنها لا تقوم بذلك إلا لأن المجتمع المادي القاسي وضعها في ظروف قاهرة دون أن تدري هي مباشرة ، ولا سبيل لها إلا أن تخضع لظروف ذلك المجتمع وهي تعتقد أنها تعمل بحرية … إنها ليست حرة أمام قاعدة : إنه لا فرق بين الرجل والمرأة في كل شيء .
إن عبارة : ( في كل شيء ) هي الخدعة الكبيرة للمرأة .. وهي التي تحطم الظروف الملائمة والضرورية التي تكون حاجة للمرأة لا بد أن تتمتع بها دون الرجل وفقاً لطبيعتها التي رتبت عليها دوراً طبيعيـاً تؤديه في الحياة .
إن المساواة بين الرجل والمرأة في حمل أثقال وهي حامل جور وقسوة .. والمساواة بينهما في صيام ومشقة – وهي ترضع جور وقسوة ..والمساواة بينهما في عمل قذر تشويهـاً لجمـالها … وتنفيـراً مـن أنوثتها جور وقسوة . إن تعليمها منهجاً يؤدي بها وفقاً له إلى ممارسة عمل لا يناسب طبيعتها هو أيضاً جور وقسوة . إن المرأة والرجـل لا فـرق بينهمـا في كل ما هو إنساني،فلا يجوز لأي واحد منهما أن يتزوج الآخر برغم إرادته ، أو أن يطلقه دون محاكمة عادلة تؤيده أو دون اتفاق إرادتي الرجل والمرأة بدون محاكمة .. أو أن تتزوج المرأة دون اتفاق على طلاق ، أو أن يتزوج الرجل دون اتفاق أو طلاق .والمرأة هي صاحبة المنزل،لأن المنزل هو أحد الظروف الملائمة والتي تكون ضرورية للمرأة التي تحمل وتمرض وتلد وتقوم بالأمومة . إن الأنثى هي صاحبة مأوى الأمومة أي البيت ، حتى في عالم الحيوانات الأخرى غير الإنسان وواجبها الأمومة بطبيعتها، فمن العسف أن يحرم الأبناء من أمهم أو أن تحرم المرأة من بيتها .
المرأة أنثى لا غير .. وأنثى تعني أنها ذات طبيعة بيولوجية مختلفة عن الرجل لكونه ذكراً .. والطبيعة البيولوجية للأنثى المختلفة عن الذكر جعلت للمرأة صفات غير صفات الرجل في الشكـل والجوهر .فشكل المرأة مختلف عن شكل الرجل لأنها أنثى ..وكـذلك كـل أنثـى في المخلوقات الحية من نبات وحيوان مختلفة في شكلها وجوهرها عن ذكرها . تلك حقيقة طبيعية لا مجال لأي مناقشة فيها.
والذكر في الممكلة الحيوانية والنباتية خلق طبيعياً قوياً وخشناً ، والأنثى في النبات والحيوان والإنسان خلقت طبيعياً جميلة ورقيقة . هذه حقائق طبيعية وأزلية خلقت بها هذه الكائنات الحيـة المسماة بالإنسان أو الحيوان أو النبات.
وترتيباً على هذه الخلقة المختلفة ، وترتيباً على نواميس الطبيعة مـارس الذكر دور القوي الخشن دون إجبار . بل لأنه خلق هكذا .
ومارست الأنثى دور الرقيق الجميل دون اختيار – بل لأنها خلقت هكذا .
وهذه القاعدة الطبـيعية هي الحكم العدل ، لكونها طبيعة من جهة ، ولكونها هي القاعدة الأساسية للحرية ، لأن الأشياء خلقت حرة ولأن أي تدخل مضاد لقاعدة الحرية هو عسف . إن عـدم التـزام هذه الأدوار الطبيعية والاستهتار بحدودها هو استهتار بقيم الحياة نفسها ، وإفساد لها والطبيعة ترتبت هكذا انسجاماً مع حتمية الحياة بين الكينونة والصيرورة . فالكائن الحي عندما يخلق حياً هو كائن ، وحتماً يعيش إلى أن يصير ميتاً . فالبقاء بين البداية والنهاية قائم على ناموس خلقي طبيعي ليس فيه اختيار ولا إجبار ، بل هو طبيعي … هو الحرية الطبيعية . ففي الحيوان والنبات والإنسان لا بد من ذكر وأنثى بوقوع الحياة من الكينونة حتى الصيرورة، وليس وجودهما فقط ، بل لا بد من ممارسة دورهما الطبيعي – الذي خلقا من أجله – ويجب أن يكون بكفاءة تامة وإذا لم يؤد بالتمام، إذن هناك خلل في مسيرة الحياة نتيجة ظرف ما . وهذا هو الحال الذي تعيشه المجتمعات الآن في كل مكان من العـالم تقريباً نتيجة الخلـط بين دور الرجل والمرأة، أي نتيجة محاولات تحويل المرأة إلى رجل وانسجاماً مع الخلقة وغايتها عليهما أن يبدعا في دورهما ، والعكس هو القهقرى.. هو الاتجاه المضاد للطبيعة الهادم لقاعدة الحرية المضاد للحياة المضاد للبقاء . ولابد أن يقوم كل واحد منهما بدوره الذي خلق له ولا يتنازل عنه ،لأن التنازل عنه أو عن بعضه لا يقع إلا من جراء ظروف قاهرة …أي في حالة غير سوية..فالمرأة التي تمتنع عن الحمل أو الزواج أو الزينة والرقة لأسباب صحية، فهي تتنازل عن دورها الطبيعي في الحياة تحت هذا الظرف الصحي القاهر..والمرأة التي تمتنع عن الحـمل والزواج أو الأمومة … الخ. بسبب العمل تتنازل عن دورها الطبيـعي تحت الظـرف القـاهر أيضاً.. والمرأة التي تمتنع عن الحمل أو الزواج أو الأمومة .. الخ .. دون أي سبب مادي فهي تتنازل عن دورها الطبيعي تحت ظرف قاهر من الشذوذ المعنوي عن الطبيعة الخلقية . وهكذا فالتنازل عن القيام بالدور الطبيعي للأنثى أو الذكر في الحياة لا يمكن أن يكون إلا تحت ظروف غير طبيعيـة معاكسة للحرية مهـددة للبقاء . وعليه لابد من ثورة عالمية تقضي على كل الظروف المادية التي تعطل المرأة عن القيام بدورها الطبيعي في الحياة، والتي تجعلها تقوم بواجبات الرجل لكي تتساوى معه في الحقوق ، وإن هذه الثورة ستأتي حتماً ، خاصة في المجتمعات الصناعية ، كرد فعل لغريزة البقاء، وحتى دون أي محرض على الثورة كالكتاب الأخضر مثلاً .
إن كل المجتمعات تنظر إلى المرأة الآن كسلـعة ليس إلا .. الشرق ينظـر إليهـا باعتبـارها متـاعاً قابلاً للبيـع والشراء ، والغرب ينظر إليها باعتبـارها ليسـت أنثى .
إن دفع المرأة لعمل الرجل هو اعتداء ظالم على أنوثتها التي زودت بها طبيعياً لغرض طبيعي ضروري للحياة .. إذ إن عمل الرجل يطمس المعالم الجميلة للمرأة التي أرادت لها الخليقة أن تظهر لتؤدي دوراً غير دور العمل الذي يناسب غير الإناث .. إنه تماماً مثل الأزهار التي خلقت لتجذب حبوب اللقاح .. ولتخلف البذور .. ولو طمسناها لانتهى دور النبات في الحياة .. وإنه هو الزخرفة الطبيعية في الفراشة والطيور وبقية إناث الحيوانات لهذا الغرض الحيوي الطبيـعي . وإن عمل الرجل إذا قامت به المرأة فعليها أن تتحول إلى رجل تاركة دورها وجمالها. إن المرأة لها حقوقها كاملة دون أن تجبر على التحول إلى رجل والتخلي عن أنوثتها .
إن التركيب الجسماني المختلف طبيعياً بين الرجل والمرأة يؤدي إلى أن وظائف الأجزاء المختلفة للأنثى عن الذكر مختلفة كذلك .. وهذا يؤدي إلى اختلاف طبيعي نتيجة لاختلاف وظائف الأعضاء المختلفة بين الرجل والمرأة ويؤدي إلى اختلاف في المزاج والنفس والأعصاب وشكل الجسم .. فالمرأة عطوف.. والمرأة جميلة.. والمرأة سريعة البكاء .. والمرأة تخاف…وعموماً نتيجة للخلقة الطبيعية فالمرأة رقيقة والرجل غليظ .
إن تجاهل الفروق الطبيعية بين الرجل والمرأة والخلط بين أدوارهما اتجاه غير حضاري على الإطلاق .. ومضاد لنواميس الطبيـعة .. ومهدم للحيـاة الإنسانيـة .. وسبب حقيقي في بؤس الحياة الاجتماعية للإنسان .
إن المجتمعات الصناعية في هذا العصر التي كيفت المرأة للعمل المادي مثل الرجل على حساب أنوثتها ودورها الطبيعي في الحياة ، من الناحية الجمالية والأمومة و السكينة ، هي مجتمعات غير حضارية.. هي مجتـمعـات مادية.. وليست متـحضرة.. ومن الغباء والخطر على الحضارة والإنسانية تقليدها .
وهكذا فالمسألة ليست أن تعمل المرأة أو لا تعمل.. فهذا طرح مادي سخيف – فالعمل يجب أن يوفره المجتمع لكل أفراده القادرين عليه والمحتاجين إليه رجالاً ونساء . ولكن أن يعمل كل فرد في المجال الذي يناسبه . وألا يضطر تحت العـسف إلى أن يعمل مـالا يناسبه .
أن يجد الأطفال أنفسهم في ظرف عمل الكبار ذلك جور ودكتاتورية . وأن تجد المرأة نفسها في ظرف عمل الرجال ذلك جور ودكتاتورية أيضاً .
الحرية هي أن يتعلم كل إنسان المعرفة التي تناسبه والتي تؤهله لعمل يناسبه والدكتاتورية هي أن يتعلم الإنسان معرفة لا تناسبه .. وتقوده إلى عمل لا يناسبه … إن العمل الذي يناسب الرجل ليس دائماً هو العمل الذي يناسب المرأة … والمعرفة التي تناسب الطفل ليست هي المعرفة التي تناسب الكبير .
ليس هناك فرق في الحقوق الإنسانية بين الرجل والمرأة ، والكبير والصغير .. ولكن ليست ثمة مساواة تامة بينهم فيما يجب أن يقوموا به من واجبات .

الأقليــات :
ما هي الأقلية ، وما لها وما عليها ، وكيف تحل مشكلة الأقلية وفقاً لحل مشاكل الإنسان المختلفة على ضوء النظرية العالمية الثالثة ؟ .
الأقلية نوعـان لا ثالث لهـما :أقلية تنتمي إلى أمة وإطارها الاجتماعي هو أمتها … وأقلية ليس لها أمة ، وهذه لا إطار اجتماعي لها إلا ذاتها .. وهذا النوع هو الذي يكون أحد التراكمات التاريخية التي تكـون في النهايـة الأمـة بفعل الانتماء والمصير .. وهذه الأقلية لها حقوقها الاجتماعيـة الذاتية كمـا اتضح لنا. ومن الجور المساس بتلك الحقوق من طرف أي أغلبية . فالصفة الاجتماعية ذاتية وليست قابلة للمنح والخلع . أما مشكلاتها السياسية والاقتصادية فلا تحل إلا ضمن المجتمع الجماهيري الذي يجب أن تكون بيد جماهيره السلطة والثروة والسلاح .. إن النظر إلى الأقلية على أنها أقلية من الناحيـة السياسية والاقتصادية هو دكتاتورية وظلم .

الســود :
( السود سيسودون في العالم ) :
إن آخر عصر من عصور الرق كان استرقاق الجنس الأبيض للجنس الأسود . وهذا العصر سيظل ماثلاً في ذهن الإنسان الأسود حتى يشعر بأنه قد رد اعتباره .
إن هذا الحـدث التـاريخي المأساوي، والشعور المؤلم به ، والبحث النفسي عن حالة شعور بالرضا لرد الاعتبار لجنس بحاله هي سبب نفسي لا يمكن تجاهله في حركة الجنس الأسود ليثأر لنفسه وليسود . مضافاً إلى هذا ما تحتمه الدورات التاريخية الاجتماعية .. ومنها أن الجنس الأصفر قد ساد العالم عندما زحف من آسيا على بقية القارات … ثم جاء دور الجنس الأبيض عندما قام بحركة استعمار واسعة شملت كل قارات العالم .. والآن جاء دور الجنس الأسود ليسود كذلك .
إن الجنس الأسود هو الآن في وضع اجتماعي متـخلف جداً . بيد أن هذا التخلف يعمل لصالـح تفوق هذا الجنس عددياً ، إذ إن المستـوى المتدني الذي يعيشه السود جعلهم في مأمن من معرفة وسائل تحديد النسل وتنظيمه . كما أن عاداتهم الاجتماعية المتخلفة هي سبب في عدم وجود حد للزواج مما يؤدي إلى تكاثرهم بدون حدود ، في الوقت الذي يتناقص فيه عدد الأجناس الأخرى بسبب تحديد النسل وتحديد الزواج وبسبب الانشغال بالعمل الدائب ، خلافاً للسود الذين يمارسون الخمول في جو حار دائم .

التعليم :
العلم أو التـعليم ليـس ذلك المنـهج المنظم ، وتلك المواد المبّوبة التي يجبر الشباب على تعلمها خلال سـاعات محدودة على كراس مصفوفة وفي كتب مطبوعة . إن هذا النوع من التعليم _هو السائد في جميع أنحاء العالم الآن-هو أسلوب مضاد للحرية .. إن التعليم الإجباري الذي تتباهى دول العالم به كلما تمكنت من فرضه على شبيبتها هو أحد الأساليب القامعة للحرية .. إنه طمس إجباري لمواهب الإنسان .. وهو توجيه إجباري لاختيارات الإنسان .. إنه عمل دكتاتوري قاتل للحرية لأنه يمنع الإنسان من الاختيار الحر والإبداع والتألق .. أن يجبر الإنسان على تعلم منهج ما ، عمل دكتاتوري .. أن تفرض مواد معينة لتلقينها للناس عمل دكتاتوري .
إن التعليم الإجباري .. والتعليم المنهجي المنظم هو تجهيل إجباري في الواقع للجماهير . إن جميع الدول التي تحدد مسـارات التـعليم عن طريق مناهج رسمية .. وتجبر الناس على ذلك وتحدد رسمياً المواد والمعارف المطلوب تعلمها هي دول تمارس العسف ضد مواطنيها . إن كافة أساليب التعليم السائدة في العالم يجب أن تحطمها ثورة ثقافية عالمية تحرر عقلية الإنسان من مناهج التعصب والتكييف العمدي لذوق ومفهوم وعقلية الإنسان .
إن هـذا يعني إقفال أبواب دور العـلم كما يبدو للسطحيين عند قراءتهم له ، وانصراف الناس عن التعلم . إنه على العكس من ذلك ، يعني أن يوفر المجتمع كل أنواع التعليم ، ويترك للناس حرية التوجه إلى أي علم تلقائياً، وهذا يتطلب أن تكون دور التعليم كافية لكل أنواع المعارف . وإن عدم الوصول إلى الكفاية منها هو حد لحرية الإنسان ، وإرغام له على تعلم معارف معينة،وهي المتوفرة، وحرمانه من حق طبيعي نتيجة غياب المعارف الأخرى . فالمجتمعات التي تمنع المعرفة والتي تحتكرها هي مجتمعات رجعية متعصبة للجهل معادية للحرية .وهكذا فالمجتمعات التي تمنع معرفة الدين كما هو هي مجتمعات رجعية متعصبة للجهل معادية للحرية .. والمجتمعات التي تحتكر المعرفة الدينية هي أيضاً مجتمعات رجعية متعصبة للجهل معادية للحريـة ..والمجـتمعـات التي تشوه دين الغيـر وحضارة الغير وسلوك الغير في حالة تقديمها كمـعرفة لنفسها هي كذلك مجتمعات متعصبة رجعية.. معادية للحرية. والمجتمعات التي تمنع المعرفة المادية هي مجتمعات رجعية متعصبة للجهل معادية للحرية. والمجتمعات التي تحتكر المعرفة المادية هي مجتمعات رجعية متعصبة للجهل معادية للحرية. المعرفة حق طبيعي لكل إنسان وليس لأحد الحق في أن يحرمه منه بأي مبرر إلا إذا ارتكب الإنسان نفسه من الفعل ما يمنعه من ذلك.
إن الجهل سينتهي عندما يقدم كل شيء على حقيقته.. وعندما تتوفر معرفته لكل إنسان بالطريقة التي تناسبه .

الألحان والفنون :
إن الإنسان لا يزال متأخراً مادام عاجزاً عن التعبير بلغة واحدة .. وإلى أن يحقق الإنسان تلك الأمنية الإنسانية – والتي تبدو مستحيلة – سيبقى التعبير عن الفرح والحزن وعن الخير والشر ، وعن الجمال والقبح ، وعن الراحة والشقاء ، والفناء والخلود ، والحب والبغض .. وعن الألوان والأحاسيس والأذواق والمزاج – سيبقى التعبير عن كل هذه الأشياء بنفس اللغة التي يتكلم بها كل شعب تلقائيـاً .. بل سيبقى السلوك حسب رد الفعل الناشئ من الإحسـاس الذي تخلقه اللغة في فهم صاحبها .
إن تعلّم لغة واحدة مهما كانت ليس هو الحل في الوقت الحاضر .. إن هذه المسألة ستستمر حتما بدون حل إلى أن تمر عملية وحدة اللغـة بـعدة أحقاب وأجيال ، بشرط أن ينتهي عامل الوراثة من هذه الأجيال نتيجة مرور زمن كاف لذلك ، إذ إن إحساس وذوق ومزاج الأجداد والآباء هو الذي يشكل إحساس وذوق ومزاج الأبناء والأحفاد . فإذا كان أولئك الأجداد يعبرون بلغات مختلفة ، والأحفاد يعبرون بلغة واحدة ، فإن هؤلاء الأحفاد لا يحسون ذوق بعضهم بعضا حتى وهم يتكلمون بلغة واحدة ..إن وحدة الذوق تلك لا تتحقق إلاَ بعد أن تصنع اللغة الجديدة ذوق وإحساس الأجيال المتوارثة من بعضها بعضاً .
إذا كانت جماعة من الناس تلبس اللون الأبيض في حالة الحزن ، وجماعة أخرى تلبس الأسود في نفس الحالة فإن إحساس كل جماعة سيتكيف حسب ذينك اللونين .. أي واحدة تكره الأسود، والأخرى تحبه، والعكس بالعكس . وهذا الإحساس له تأثير مادي على الخلايا وعلى كل الذرات وحركتها في الجسم .. وبهذا سينتقل هذا التكيف بالوراثة ، فيكره الوريث اللون الذي يكرهه مورثه تلقائياً نتيجة وراثته لإحساس مورثه ، وهكذا الشعوب لا تنسجم إلا مع فنونها وتراثها ، ولا تنسجم مع فنون غيرها بسبب عامل الوراثة حتى ولو كانت هذه الشعوب المختلفة تراثاً تتكلم حالياً لغة واحدة .
بل هذا الاختلاف يظهر ولو أنه في حده الأدنى حتى بين جماعات الشعب الواحد. إن تعلم لغة واحدة ليس مشكلة .. وإن فهم فنـون الغير نتيجة معرفة لغتـه ليس مشكلة أيضاً .. ولكن المشكلة هي استحالة التكيف الوجداني الحقيقي مع لغة الغير . وهذا سيبقى مستحيلاً إلى أن ينتهي أثر الوراثة في جسم الإنسان المتحول إلى اللغة الواحدة .
إن البشرية مازالت حقاً متأخرة مادام الإنسان لا يتكلم مع أخيه الإنسان لغة واحدة موروثة وليست متعلمة .. ومع هذا فإن بلوغ البشرية تلك الغاية يبقى مسألة وقت ما لم تنتكس الحضارة .

الرياضة و الفروسية و العروض :
الرياضة إما خاصة كالصلاة يقوم بها الإنسان بنفسه وبمفرده حتى داخل حجرة مغلقة ، وإما عامة تمارس في الميادين وبشكل جماعي كالصلاة التي تمارس في المعابد بصورة جماعية . إن النوع الأول من الرياضة يهم الفرد شخصه ، أما النوع الثاني فهو يهم كل الشعب يمارسه كله ولا يتركه لأحد يمارسه بالنيابة عنه .. مثلما هو من غير المعقول أن تدخل الجماهير المعابد لتتفرج على شخص أو مجموعة تصلى دون أن تمارس هي الصلاة ! يكون أيضاً من غير المعقول أن تدخل الجماهير الملاعب والميادين لتتفرج على لاعب أو لاعبين دون أن تمارس هي الرياضة بنفسها . إن الرياضة مثل الصلاة ومثل الأكل ومثل التدفئة والتهوية ، فمن الغباء أن تدخل الجماهير إلى مطعم لتتفرج على شخص يأكل أو مجموعة تأكل ! أو تترك الناس شخصاً أو مجموعة يتمتعون بالتدفئة لأجسامهم نيابة عنها أو بالتهوية ! لا يعقل أن يجيز المجتمع لفرد أو فريق أن يحتكر الرياضة دون المجتمع، وأن يتحمل المجتمع تكاليف ذلك الاحتكار لصالح فرد أو فريق .. تماماً مثلما لا يجوز ديمقراطياً أن يسمح الشعب لفرد أو جماعة حزباً كان أو طبقة أو طائفة أو قبيلة أو مجلساً أن يقرر مصيره نيابة عنه ، ويحس بحاجاته نيابة عنه .
الرياضة الخاصة لا تهم إلا من يمارسها وعلى مسؤوليته ونفقته . الرياضة العامة حاجة عامة للناس لا ينوب أحد في ممارستها نيابة عنهم مادياً وديمقراطياً … فمن الناحية المادية لا يستطيع هذا النائب أن ينقل ما استفاده لجسمه أو لروحه المعنوية رياضياً للآخرين . وديمقراطياً لا يحق لفرد أو فريق أن يحتكر الرياضة أو السلطة أو الثروة أو السلاح دون الآخرين.
إن النوادي الرياضية التي هي أساس الرياضة التقليدية في العالم اليوم ، والتي تستحوذ على كل النفقات والإمكانات العامة الخاصة بالنشاط الرياضي في كل دولة .. إن هذه المؤسسات ما هي إلا أدوات احتكارية اجتماعية شأنها شأن الأدوات السياسية الدكتاتورية التي تحتكر السلطة دون الجماهير ، والأدوات الاقتصادية التي تحتكر الثروة عن المجتمع ، والأدوات العسكرية التقليدية التي تحتكر السلاح عن المجتمع . فكما يحطم عصر الجماهير أدوات احتكار الثروة والسلطة والسلاح … لابد أن يحطم أدوات احتكار النشاط الاجتماعي من رياضة وفروسية وما إليها .. إن الجماهير التي تصطف لتؤيد مرشحاً لينوب عنها في تقرير مصيرها وعلى أساس افتراض مستحيل في أن ينوبها ويحمل بالنيابة عنها كرامتها وسيادتها وكل حيثيتها .ولا يبقى لتلك الجماهير المسلوبة الإرادة والكرامة إلا أن تتفرج على شخص يقوم بعمل كان من الطبيعي أن تقوم به الجماهير نفسها ، هي مثل الجماهير التي لا تمارس الرياضة بنفسها ولنفسها نتيجة لعجزها عن ممارستها لجهلها واستغفالها من قبل أدوات الاحتكار التي تعمل على تلهية الجماهير وتخديرها لتمارس الضحك والتصفيق بدلاً من ممارسة الرياضة التي تحتكرها تلك الأدوات الاحتكارية … مثلما السلطة تكون جماهيرية ، فالرياضة كذلك تكون جماهيرية ومثلما الثروة تصبح لكل الجماهير والسلاح للشعب … تكون الرياضة ، بوصفها نشاطاً اجتماعيا جماهيرية كذلك .
إن الرياضة العامة تخص كل الجماهير .. وهي حق لكل الشعب لما لها من فوائد صحية وترفيهية ، من الغباء تركها لأفراد ولجماعات معينة تحتكرها وتجني فوائدها الصحية والمعنوية بمفردها، بينما الجماهير تقدم كل التسهيلات والإمكانات، وتدفع النفقات لقيام الرياضة العامة وما تتطلبه. .إن الآلاف التي تملأ مدرجات الملاعب لتتفرج وتصفق وتضحك هي الآلاف المغفلة التي عجزت عن ممارسة الرياضة بنفسها حتى صارت مصطفة على رفوف الملعب تمارس الخمول والتصفيق لأولئك الأبطال الذين انتزعوا منها المبادأة. وسيطروا على الميدان ، واستحوذوا على الرياضة ، وسخروا كل الإمكانات التي تحملتها الجماهير نفسها لصالحهم . إن مدرجات الملاعب العامة معدة أصلاً للحيلولة دون الجماهير والميادين والملاعب ، أي لكي تمنع الجماهير من الوصول إلى ميادين الرياضة ، وإنها ستخلى ثم تلغى يوم تزحف الجماهير وتمارس الرياضة جماهيرياً في قلب الملاعب والميادين الرياضية ، وتدرك أن الرياضة نشاط عام ينبغي أن يمارس لا أن يتفرج عليه . كان يمكن أن يكون العكس معقولاً، وهو أن الأقلية العاجزة أو الخاملة هي التي تتفرج .
إن مدرجات الملاعب ستختفي عندما لا يوجد من يجلس عليها . إن الناس العاجزين عن ممارسة أدوار البطولة في الحياة ، والذين يجهلون أحداث التاريخ، والقاصرين عن تصور المستقبل ، وغير الجادين في حياتهم هم الهامشيون الذين يملأون مقاعد المسارح والعروض ليتفرجوا على أحداث الحياة ، ويتعلموا كيف تسير ، تماماً كالتلاميذ الذين يملأون مقاعد المدارس لأنهم غير متعلمين..بل يكونون أميين في البداية .
إن الذين يصنعون الحياة بأنفسهم ليسوا في حاجة إلى مشاهدة كيف تسير الحياة بواسطة ممثلين على خشبة المسرح أو دور العرض .
وهكذا فالفرسان الذين يمتطي كل واحد منهم جواده لا مقعد له على حافة ميدان السباق ، فلو كان لكل واحد جواد لما وجد من يتفرج ويصفق للسباق . فالمتفرجون القاعدون هم فقط الذين غير قادرين على ممارسة هذا النشاط لأنهم ليسوا من راكبي الخيول .
هكذا فالشعوب البدوية لا تهتم بالمسرح والعروض لأنها كادحة وجادة في حياتها للغاية ، فهي صانعة الحياة الجادة ، ولهذا تسخر من التمثيل . والجماعات البدوية كذلك لا تتفرج على لاعبين ، بل تمارس الأفراح أو الألعاب بصورة جماعية ، لأنها تحس عفوياً بالحاجة إليها فتمارسها دون تفسير .
أما الملاكمة والمصارعة بأنواعها فهي دليل على أن البشرية لم تتخلص بعد من كل السلوك الوحشي … ولكنها ستنتهي حتماً عندما يرقى الإنسان درجات أكثر على سلم الحضارة . إن المبارزة بالمسدسات ، وقبلها تقديم القربان البشري ، كانت سلوكاً مألوفاً في مرحلة من مراحل تطور البشرية … ولكن منذ مئات السنين انتهت هذه الأعمال الوحشية … وأصبح الإنسان يضحك على نفسه ويتحسر لها في ذات الوقت لأنه كان يمارس تلك الأمور . وهكذا شأن الملاكمة والمصارعة بأنواعها بعد عشرات أو مئات السنين. ولكن الأفراد المتحضرين أكثر من غيرهم ، والأرقى عقلياً هم القادرون الآن على تجنب ذلك السلوك الوحشي ممارسة وتشجيعاً.