القرية.. القرية
الفرار.. الفرار من المدينة.. ابتعدوا عن الدخان.. ابتعدوا عن ثاني أكسيد الكربون الخانق.. ابتعدوا عن أول أكسيد الكربون السام.. ابتعدوا عن الرطوبة اللزجة، ابتعدوا عن غازات الخمول والسموم.. فروا من جو الكسل والكساد والسأم والملل والتثاؤب، فروا من كابوس المدينة.. اسحبوا أجسامكم بسرعة من تحت كلكلها.. حرروا أنفسكم من الجدران والدهاليز والأبواب المقفلة عليكم، أنقذوا أسماعكم من الضجيج وا لضوضاء.. والهرج والمرج والصراخ.. وطنين الاسلاك وقرع الأجراس.. وأزيز المحركات.. اهجروا الجو المزعج.. والمكان المقلق.. والموضع المقفل.. إنها مكان النظر المحدود والجهد المهدود.. اهجروا معيشة الفئران وجحورها.. اهجروا الحياة الدودية.. اهجروا المدينة.. فروا إلى القرية، حيث تشاهدون القمر لأول مرة في حياتكم، بعد أن تتحولوا من ديدان وجرذان عدميين شرهين مجردين من الروابط الاجتماعية إلى آدميين حقيقيين، هناك في القرية والواحة والريف. اخرجوا من قبور الأحياء إلى ملكوت الله الواسع المتألق الرائع.. حيث تشاهدون الثريا الطبيعية.. وتحتقرون الثريا الصناعية المصنوعة من الرمل، والمشتراة من السوق.. والقابلة للكسر والتلف في أي لحظة.. والمتسخة بالذباب والعنكبوت في جحور المدينة المسماة شققا ومنازل.. انظروا في الريف المصابيح الربانية المعلقة في السماء.. وليس في سقف قبر متسخ داخل المدينة.
القرية هادئة.. ونظيفة.. ومترابطة.. وأهلها يعرف بعضهم بعضا.. ومتضامنون في السراء والضراء.. لا سرقة في القرية والريف، الناس يعرف بعضهم بعضا.. والمرء هناك يحسب ألف حساب لسمعة عائلته وقبيلته ولقبه، وأي مسبة يرتكبها الإنسان في القرية، لا تنتهي بيومها كما هو في المدينة، والتي تسجل عادة ضد مجهول- لكثرة ساكني المدينة واختلافهم-ولا تنتهي حتى بنهايته، بل تبقى عالقة باسرته ورهطه وقبيلته أمام بقية العشائر والقبائل، وتشكل إهانة دائمة لذويه. وهذا راع إجماعي أقوى من قوة القانون المدني والشرطة المدنية.. ثم إن التضامن والتكافل الاجتماعي في الريف والقرية، يسد حاجة المعوزين، ويكفيهم السؤال والسرقة.. كما أن حياة القرية والريف البسيطة المتواضعة القنوعة بعيدة عن الشهوات والكماليات.. فلا يحس ساكن القرية والريف بالحاجة لتلك الرغبات السخيفة التي يحس بها ساكن المدينة. فالقرية والريف لاتعرف التقليعة والطفرة و(الموضة)فمزاجهم هادئ ورائق وغير متقلب، غير قابل للتقليعة والتحول، فاهل القرية لا يعانون من عذاب التعقيد والتوتر واللهث وراء المثيرات..وهكذا، فإن حياتهم هادئة وهنيئة، فهي بريئة من آلام الشهوات.نعم إن الشهوات في حد ذاتها ممتعة، ولكن ما قبلها وما بعدها من أجلها عذاب وألم وضيق وشقاء.. فهي آلام الرغبة في الحصول على شيء غير ميسور وغير ضروري لأنه مرغوب. فالضروري.كالحرث والحصاد من أجل لقمة العيش، أو غرز الأشجار، وجنى ثمارها من أجل أكلها، هي أشياء ضرورية، وما يسبقها من عمل غير مضجر وغير مؤلم نفسيا على الأقل، بل هو كدح ممتع لحلاله ولضرورته.. ولاتعقبه أو تسبقه ندامة، بل تسبقه الآمال المفرحة لتحقيقه، والرضا والمنفعة بعد مناله.. فحياة المدينة لهث وراء الشهوات، وكماليات غير لازمة، ولكن لابد منها. وعندما نرى الأمراض الاجتماعية تنتشر في المدينة، ونسمع الموعظة ضدها، وتسن القوانين لمحاربتها، لانستغرب، ولانعتقد أنها ستنتهي، وأننا سننتصر عليها، إذ إن طبيعة حياة المدينة مقرونة بهذه الأمراض حتما.. فالمدينة غثيان.. ودوخان.. وغياهب.. وعبث وضياع.. وجنون.. وخوف من الجنون.. ومن مواجهة الحياة المدينية.. و مشاكلها المدينية.. وبالتالي هروب منها، وعمل على تجاهلها..وتعويض عن الفراغ الاجتماعي والاخلاقي.. وقصور عن تلبية الرغبات المدينية، فاللهو للغياب عن الحياة، والسكر والجنون والاشجار هي العلاجات الممكنة ضد أمراض الحياة المدينية. وأحيانا ولبعض الناس، بل لنسبة عالية من سكان المدينة تعد حياة المدينة وضياعها وعدميتها وسطحيتها وخلوها من المسؤولية، تعد علاجا في حد ذاتها.
اهجروا الجحيم الارضي.. وفروا سريعا، وبكل ابتهاج إلى القرية والريف، حيث للجهد الجسماني معناه وضرورته وفائدته ومتعته. هناك توجد الحياة الإنسانية الاجتماعية، هناك الأسرة المترابطة، والعائلة المتماسكة، والقبيلة المتضامنة.. هناك الثبات والإيمان والصفاء.. فالكل يحب بعضهم بعضا، وكل في مزرعته، أو مع شياهه ودواجنه، أو خدمة القرية والريف، فلا يقبل الانحراف، لأن أهل القرية يعرف بعضهم بعضا، خلافا لأهل المدينة، حيث إن المنحرف متأكد من عدم معرفته من قبل الآخرين في المدينة، ولهذا فالكذاب يستطيع أن يكذب… دون أن يترتب على كذبه مساءلة اجتماعية له، أو لعائلته، أو قبيلته، لأن ساكن المدينة ليس له اسم أو لقب أو منسب، اسمه هو رقم شقته.. ولقبه هو رقم هاتفه.. ومنسبه هو الشارع أو المرفق، وهذه يبدلها من حين إلى آخر. إذن، هو الان ليس هو بعدئذ . ما أجمل القرية والريف..!! الهواء النقي، الأفق الممتد، السقف السماوي المرفوع بلا عمد.. المصابيح الربانية… الضمير.. والمثل هي مصدر الإلزام الخلقي.. وليس الخوف من الشرطي والقانون والحبس والغرامة.. التحرر من القيود المفروضة والتوجيهات الضرورية المبغوضة.. فلا صفارات خطا تصر في أذن المعنى وغير المعنى، لا توجيه إجباري.. لاتدافع بالمناكب.. لا طوابير ولا انتظار.. ولا حتى نظر للساعة.. القرية والريف.. الفضاء الواسع.. الانشراح.. الملكوت البديع يجعل الحياة مريحة هادئة، لخلوها من ضيق المدينة وزحامها. للقمر معنى.. وفي السماء متعة..وللأفق رؤية.. وكذلك الشروق والغروب والشفق والغسق . انظروا إلى هذه الصورة الرائعة التي يرسمها القرآن لدنيا القرية والريف: (فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق..والقمر إذا اتسق..)ليس للمدينة قمر ولاشمس ولاشفق ولاغسق، يختلط ليلها بنهارها بلا فاصل.. لا نرى شيئا من الطبيعة. نرى فقط الاختلاقات و التزويقات.. ونحس بالمضايقات والمعاكسات، ونعيش العبثيات والهامشيات،ونرى تحت أقدامنا.. ونقرأ الملصقات، وننتبه للإشارات.. ونحشر بالضرورة في دنيا الأشياء الصغيرة، وإلا فقدنا حتى حياتنا.. إن أي انتباه أو تأمل لغير تلك الدقيقات، يخرجك عن قضبان سياق حياة المدينة.. وربما كلفك حياتك، أو حريتك المدينية. القرآن يقول (والشمس وضحاها..والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها.. والليل إذا يغشاها.. والسماء و ما بناها والأرض وما طحاها).. تلك صورة رائعة لدنيا القرية والريف.. وكذلك قوله(والضحى . والليل إذا سجى.) وعندما يقسم بالفجر، إن الفجر لايرى إلا في الريف والقرية.. أي فجر لمدينة مكهربة ليلا ونهارا..!!؟ من يرى السماء ذات البروج!!؟ وفي الأرض آيات للموقنين..!!؟ أي أرض في المدينة؟ أرصفة مزحومة.. شوارع مكظومة.. نواح مبرومة.. زقاق.. مختنقات.. مضايقات.. رؤية محدودة . أي آيات يتيقن منها الموقنون في شوارع المدينة!؟ آي تأمل في زحمة المدينة!!؟ ليس ثمة وقت في المدينة، وليس فيها ليل أو نهار.. ما بالك بالوسق والغسق والفجر والشفق!!.