الفصل الثاني من الكتاب الاخضر
لفصل الثاني من الكتاب الاخضر – حل المشكل الاقتصادي
بقلم :معمر القذافي
الذى ينتج هو الذى يستهلك
الحاجة
المسكن
المعاش
المركوب
الأرض
خدم المنازل
الركن الاقتصادي للنظرية العالمية الثالثة
شركاء لا أجــراء . .
بالرغم من أن تطورات تاريخية هامة قد حدثت على طريق حل مشكلة العمل وأجرة العمل، أي العلاقة بين العمال .. وأصحاب العمل، بين المالكين والمنتجين، منها تحديد ساعات العمل، وأجرة العمل الإضافي والإجازات المختلفة والاعتراف بحد أدنى للأجور، و مشاركة العمال في الأرباح والإدارة ،ومنع الفصل التعسفي، والضمان الاجتماعي ، وحـق الإضراب ، وكل ما حوته قوانين العمل التي لا يكاد يخلو تشريع معاصر منها . و حدثت أيضاً تحولات لا تقل أهمية عن تلك في جانب الملكية من حيـث ظهور أنظمة تحد من الدخل، و أنظمة تحرم الملكية الخاصة و تسندها إلي الحكومة . برغـم كل هـذه التطورات التي لا يستهان بها في تاريخ المشكل الاقتصادي إلا أن المشكلة مازالت قائمة جذرياً مع كل التقليمات والتحسينات والتهذيبات والإجراءات و التطورات التي طرأت عليها و التي جعلتها أقل حدة من القرون الماضية ، وحققت مصالح كثيرة للعاملين ، إلا أن المشكل الاقتصادي لم يحل بعد في العالم ، فالمحاولات التي انصبت على الملكية لم تحل مشكلة المنتجين ، فلا يزالون أجراء برغم انتقال أوضاع الملكية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار واتخاذها عدة أوضاع في الوسط بين اليسار واليمين.
والمحاولات التي انصبت على الأجرة لا تقل بعداً في هذا الجانب عن المحاولات التي انصبت على الملكية ونقلتها من وضع إلى وضع. وفي مجمل معالجة قضية الأجرة هو المزايا التي حصل عليها العاملون وضمنتها التشريعات وحمتها النقابات حيث تبدلت الحالة السيئة التي كان عليها المنتجون غداة الانقلاب الصناعي، واكتسب العمال والفنيون والإداريون حقوقاً مع مرور الزمن كانت بعيدة المنال .
ولكن في واقع الأمر فإن المشكل الاقتصادي مازال قائماً .
إن المحاولة التي انصبت على الأجور ليست حلاً على الإطلاق ، وإنما هي محاولة تلفيقية وإصلاحية أقرب إلى الإحسان منها إلى الاعتراف بحق للعاملين. لماذا يعطى العاملون أجرة ؟ لأنهم قاموا بعملية إنتاج لصالح الغير الذي استأجرهم لينتجوا له إنتاجا,ً إذن، هم لم يستهلكوا إنتاجهم ، بل اضطروا إلى التنازل عنه مقابل أجرة ، والقاعدة السليمة هي :
(( الذي ينتج هو الذي يستهلك )) .
(( إن الأجـراء . مهما تحسنت أجورهم . هم نوع من العبيد )) .
إن الأجير هـو شبه العبد للسيد الذي يستأجره ، بل هو عبد مؤقت ، وعبوديته قائمة بقيام عمله مقابل أجر من صاحب العمل بغض النظر عن حيثية صاحب العمل من حيث هو فرد أو حكومة .
فالعاملون من حيث علاقتهم بالمالك أوبالمنشأة الإنتاجية ، من حيث مصالحهم الخاصة واحدة .. فهم أجراء في كل الحالات الموجودة الآن في العالم، برغم أن أوضاع الملكية مختلفة من اليمين إلى اليسار . حتى المنشأة الاقتصادية العامة لا تعطي لعمالها إلا أجورا ومساعدات اجتماعية أخرى أشبه بالإحسان الذي يتفضل به الأغنياء أصحاب المؤسسات الاقتصادية الخاصة على العاملين معهم .
فالقول بأن الدخل في حالة الملكية العامة يعود إلى المجتمع ، بمن فيه العاملون خلافاً لدخل المؤسسة الخاصة الذي يعود إلى مالكها فقط .صحيح إذا نظرنا إلى المصلحة العامة للمجتمع و ليس إلى المصالح الخاصة للعاملين ، وإذا افترضنا أن السلطة السياسية والمحتكرة للملكية هي سلطة كل الناس ، أي أنها سلطة الشعب بكامله يمارسها عن طريق المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية .. وليست سلطة طبقة واحدة ، أوحزب واحد ، أو مجموعة أحزاب ، أو سلطة طائفة ،أو قبيلة ،أو عائلة ، أو فرد ، أو أي نوع من السلطة النيابية . ومع هذا فإن ما يعود على العاملين مباشرة من حيث مصالحهم الخاصة ، في شكل أجور أو نسبة من الأرباح أو خدمات اجتماعية ، هو نفس الذي يعود على العاملين في المؤسسة الخاصة : أي أن كلا من العاملين في المنشأة العامة والمنشأة الخاصة هم أجراء برغم اختلاف المالك .
وهكذا فإن التطور الذي طرأ على الملكية من حيث نقلها من يد إلى يد لم يحل مشكلة حق العامل في الإنتاج ذاته الذي ينتجه مباشرة ، وليس عن طريق المجتمع أو مقابل أجرة ، والدليل على ذلك هو أن المنتجين لا يزالون أجراء برغم تبدل أوضاع الملكية .
إن الحل النهائي هو إلغاء الأجرة ، وتحرير الإنسان من عبوديتها ، والعودة إلى القواعد الطبيعية التي حددت العلاقة قبل ظهور الطبقات وأشكال الحكومات والتشريعات الوضعية .
إن القواعد الطبيعية هي المقياس والمرجع والمصدر الوحيد في العلاقات الإنسانية.
إن القواعد الطبيعية أنتجت اشتراكية طبيعية قائمة على المساواة بين عناصر الإنتاج الاقتصادي ، وحققت استهلاكاً متساوياً تقريباً لإنتاج الطبيعة بين الأفراد. أماعمليات استغلال إنسان لإنسان ، واستحواذ فرد على أكثر من حاجته من الثروة، فهي ظاهرة الخروج عن القاعدة الطبيعية وبداية فساد وانحراف حياة الجماعة البشرية ، وهي بداية ظهور مجتمع الاستغلال . وإذا حللنا عوامل الإنتاج الاقتصادي منذ القدم وحتى الآن ، ودائماً ، نجدها تتكون حتماً من عناصر إنتاج أساسية ، وهي مواد إنتاج ، و وسيلة إنتاج ، ومنتج. والقاعدة الطبيعية للمساواة هي : أن لكل عنصر من عناصر الإنتاج حصة في هذا الإنتاج ، لأنه إذا سُحب واحد منها لا يحدث إنتاج ، ولكل عنصر دور أساسي في عملية الإنتاج ، وبدونه يتوقف الإنتاج .
وما دام كل عنصر من هذه العناصر ضرورياً وأساسياً ، إذن هي متساوية في ضرورتها في العملية الإنتاجية ، ولابد أن تتساوى في حقها في الإنتاج الذي أنتجته وطغيان أحدها على الآخر هو تصادم مع القاعدة الطبيعية للمساواة ، وتعدّعلى حق الغير ، إذن ، لكل عنصر حصة بغض النظر عن هذه العناصر، فإذا وجدنا عملية إنتاجية تمت بواسطة عنصرين فقط يصير لكل عنصر نصف الإنتاج وإذا تمت بثلاثة عناصر يصير لكل عنصر ثلث الإنتاج … وهكذا.
وبتطبيق هذه القاعدة الطبيعية على الواقع القديم والمعاصر نجد الآتي :
في مرحلة الإنتاج اليدوي تتكون عملية الإنتاج من مواد خام وإنسان منتج ، ثم دخلت وسيلة إنتاج في الوسط بحيث استخدمها الإنسان في عملية الإنتاج ، ويعتبر الحيوان نموذجاً لها كوحدة قوة ، ثم تطورت هذه الوسيلة وحلت الآلة محل الحيوان ، وتطورت أنواع وكميات المواد الخام من مواد بسيطة رخيصة إلى مواد مركبة وثمينة للغاية . وتطور أيضاً الإنسان من عامل عادي إلى مهندس وفني ، ومن أعداد غفيرة من العاملين إلى نفر قليل من الفنيين . بيد أن عناصر الإنتاج وإن تغيرت كيفياً وكمياً لم تتغير في جوهرها من حيث دور كل واحد منها في عملية الإنتاج وضرورته ، فخام الحديد مثلاً الذي هو أحد عناصر الإنتاج قديماً وحديثاً كان يصنع بطريقة بدائية ينتج منه الحداد يدوياً سكيناً أو فأساً أو رمحاً … الخ … والآن نفس خام الحديد يصنع بواسطة أفران عالية ينتج منه المهندسون والفنيون الآلات والمحركات والمركبات بأنواعها المختلفة. والحيوان الذي هو الحصان أو البغل أو الجمل وما في حكمها ، والذي كان أحد عناصر الإنتاج ، حل محله الآن المصنع الضخم والآلات الجبارة.
والمواد المنتجة التي كانت أدوات بدائية أصبحت الآن معدات فنية معقدة . ومع هذا فعوامل الإنتاج الطبيعية الأساسية ثابتة جوهرياً برغم تطورها الهائل ، وهذا الثبات الجوهري لعناصر الإنتاج يجعل القاعدة الطبيعية هي القاعدة السليمة التي لا مفر من العودة إليها في حل المشكل الاقتصادي حلاً نهائياً ، وذلك بعد فشل كل المحاولات التاريخية السابقة التي تجاهلت القواعد الطبيعية .
إن النظريات التاريخية السابقة عالجت المشكل الاقتصادي من زاوية ملكية الرقبة لأحد عناصر الإنتاج فقط ، ومن زاوية الأجور مقابل الإنتاج فقط ، ولم تحل المشكلة الحقيقية وهي مشكلة الإنتاج نفسه . ( وهكذا كان أهم خصائص الأنظمة الاقتصادية السائدة الآن في العالم هو نظام الأجور الذي يجرد العامل من أي حق في المنتجات التي ينتجها ، سواء أكان الإنتاج لحساب المجتمع أم لحساب منشأة خاصة ) .
إن المنشأة الصناعية الإنتاجية قائمة من مواد إنتاج وآلات المصنع وعمال ، ويتولد الإنتاج من استخدام آلات المصنع بواسطة العمال في تصنيع المواد الأولية … وهكذا فالمواد المصنعة الجاهزة للاستعمال والاستهلاك مرت بعملية إنتاجية ما كانت لتحصل لولا المواد الخام والمصنع والعمال ، بحيث لو استبعدنا المواد الأولية لما وجد المصنع ما يصنعه . ولو استبعدنا المصنع لما تصنعت المواد الخام . ولو استبعدنا المنتجين لما اشتغل المصنع . وهكذا فالعناصر التي هي ثلاثة في هذه العملية متساوية الضرورة في عملية الإنتاج ولولاهاـ هي الثلاثة ـ لما حصل إنتاج ، وأي واحد منها لا يستطيع القيام بهذه العملية الإنتاجية بمفرده ، كما أن أي اثنين من هذه العناصر الثلاثة في مثل هـذه العملية لا يستطيعان القيام بالإنتاج في غياب العنصر الثالث . والقاعدة الطبيعية في هذه الحالة تحتم تساوي حصص هذه العوامل الثلاثة في الإنتاج ، أي أن إنتاج مثل هذا المصنع يقسم إلى ثلاث حصص ، ولكل عنصر من عناصر الإنتاج حصة ، فليس المهم المصنع فقط ،ولكن المهم من يستهلك إنتاج المصنع.
كذلك العملية الإنتاجية الزراعية التي تتم بفعل الإنسان والأرض دون استخدام وسيلة ثالثة ، هي مثل العملية الإنتاجية الصناعية اليدوية تماماً ، فالإنتاج في مثل هذه الحالة يقسم إلى حصتين فقط بعدد عوامل الإنتاج . أما إذا استخدمت وسيلة آلية أو ما في حكمها للزراعة … فالإنتاج هنا يقسم إلى ثلاث حصص : الأرض والزارع ، والآلة التي استخدمها في عملية الزراعة .
وهكذا يقام نظام اشتراكي تخضع له كل العمليات الإنتاجية قياساً على هذه القاعدة الطبيعية .
إن المنتجين هم العمال ، وقد سموا هكذا لأن كلمة العمال أو الشغيلة أو الكادحين لم تعد حقيقة ، والسبب هو أن العمال حسب التعريف التقليدي آخذون في التغير كميا وكيفيا ، وأن طبقة العمال في تناقص مستمر ، يتناسب طردياً مع تطور الآلات والعلم .
إن الجهد الذي كان يلزم لإحداثه عدد من العمال ، أصبح الآن يحدث بفعل حركة الآلة. وتشغيل الآلة يتطلب أقل عدد من المشغلين ، وهذا هو التغير الكمي للقوة العاملة. كما أن الآلة استلزمت قدرة فنية بدل القدرة العضلية ، وهذا هو التغير الكيفي في القوة العاملة .
إن قوة منتجة فحسب أصبحت أحد عناصر الإنتاج ، وقد تحولت الشغيلة بفعل التطور من الأعداد الغفيرة الكادحة الجاهلة إلى أعداد محدودة من فنيين ومهندسين وعلماء . ونتيجة لذلك فإن نقابات العمال ستختفي وتحل محلها نقابات المهندسين والفنيين ، إذ إن التطور العلمي هو مكسب للإنسانية لايمكن العودة عنه ، وإن الأمية مقضي عليها بحكم هذا التطور ، وإن الشغيلة العادية ظاهرة مؤقتة آخذة في الاختفاء تدريجياً أمام التطور العلمي . بيد أن الإنسان بشكله الجديد سيبقى دائماً عنصراً أساسياً في عملية الإنتاج .
في الحاجـة تكمن الحرية
الحاجـة : إن حرية الإنسان ناقصة إذا تحكم آخر في حاجته ، فالحاجة قد تؤدي إلى استعباد إنسان لإنسان ، والاستغلال سببه الحاجة . فالحاجة مشكل حقيقي ، والصراع ينشأ من تحكم جهة ما في حاجات الإنسان .
البــيت لساكنـه
المسكن : حاجة ضرورية للفرد والأسرة ، فلا ينبغي أن يكون ملكاً لغيره . لا حرية لإنسان يعيش في مسكن غيره بأجـرة أو بدونها . إن المحاولات التي تبذلها الدول من أجل معالجة مشكلة المسكن ليست حلاً على الإطلاق لهذه المشكلة، والسبب هو أن تلك المحاولات لا تستهدف الحل الجذري والنهائي ، وهو ضرورة أن يملك الإنسان مسكنه ، بل استهدفت الأجرة من حيث خفضها أو زيادتها وتقنينها ، سواء أكانت هذه الأجرة لحساب خاص أم عام . فلا يجوز في المجتمع الاشتراكي أن تتحكم أي جهة في حاجة الإنسان ، بمن فيها المجتمع نفسه . فلا يحق لأحد أن يبني مسكناً زائداً عن سكناه وسكن ورثته بغرض تأجيره ، لأن المسكن هو عبارة عن حاجة لإنسان آخر ، وبناءه بقصد تأجيره هو شروع في التحكم في حاجة ذلك الإنسان . وفي الحاجة تكمن الحرية .
المعاش : حاجة ماسة جداً للإنسان ، فلا يجوز أن يكون معاش أي إنسان في المجتمع أجرة من أي جهة أو صدقة من أحد ، فلا أجراء في المجتمع الاشتراكي بل شركاء . فمعاشك هو ملكية خاصة لك تديرها بنفسك في حدود إشباع حاجاتك، أو يكون حصة في إنتاج أنت أحد عناصره الأساسية ، وليس أجرة مقابل إنتاج لأي كان .
المركوب : حاجة ضرورية أيضاً للفرد والأسرة ، فلا ينبغي أن يكون مركوبك ملكاً لغيرك . فلا يحق في المجتمع الاشتراكي لإنسان أو جهة أخرى أن تمتلك وسائل ركوب شخصية بغرض تأجيرها لأن ذلك تحكم في حاجة الآخرين .
الأرض : الأرض ليست ملكاً لأحد . ولكن يحق لكل واحد استغلالها للانتفاع بها شغلاً وزراعة ورعياً مدى حياته وحياة ورثته في حدود جهده الخاص دون استخدام غيره بأجر أو بدونه ، وفي حدود إشباع حاجاته . إنه لو جاز امتلاك الأرض لما وجد غير الحاضرين نصيبهم فيها ، وإن الأرض ثابتة ، والمنتفعين بها يتغيرون بمرور الزمن مهنة و قدرة و وجودا .
إن غاية المجتمع الاشتراكي الجديد هي تكوين مجتمع سعيد لأنه حر، وهذا لا يتحقق إلا بإشباع الحاجات المادية والمعنوية للإنسان ، وذلك بتحرير هذه الحاجات من سيطرة الغير وتحكمه فيها.
إن إشباع الحاجات ينبغي أن يتم دون استغلال أو استعباد الغير ، وإلا تناقض مع غاية المجتمع الاشتراكي الجديد .
فالإنسان في المجتمع الجديد ، إما أن يعمل لنفسه لضمان حاجاته المادية، وإما أن يعمل لمؤسسة اشتراكية يكون شريكاً في إنتاجها، أو أن يقوم بخدمة عامة للمجتمع، ويضمن له المجتمع حاجاته المادية .
إن النشاط الاقتصادي في المجتمع الاشتراكي الجديد هو : نشاط إنتاجي من أجل إشباع الحاجات المادية ، وليس نشاطاً غير إنتاجي أو نشاطاً يبحث عن الربح من أجل الادخار الزائد عن إشباع تلك الحاجات . إن ذلك لا إمكانية له بحكم القواعد الاشتراكية الجديدة .
إن الغاية المشروعة للنشاط الاقتصادي للأفراد هي إشباع حاجاتهم فقط ، إذ إن ثروة العالم محدودة على الأقـل في كل مرحلة … وكذلك ثروة كل مجتمع على حدة ، ولهذا لا يحق لأي فرد القيام بنشاط اقتصادي بغرض الاستحواذ على كمية من تلك الثروة أكثر من إشباع حاجاته ، لأن المقدار الزائد عن حاجاته هو حق للأفراد الآخرين . ولكن يحق له الادخار من حاجاته من إنتاجه الذاتي وليس من جهد الغير ولا على حساب حاجات الغير . لأنه لو جاز القيام بنشاط اقتصادي أكثر من إشباع الحاجات لحاز إنسان أكثر من حاجاته ، ولحرم غيره من الحصول على حاجاته .
إن الادخار الزائد عن الحاجة هو حاجة إنسان آخر من ثروة المجتمع .
إن إباحة الإنتاج الخاص للحصول على ادخار فوق إشباع الحاجات ، وإباحة استخدام الغير لإشباع حاجاتك ، أو استخدامه للحصول على ما هو فوق حاجاتك … أي تسخير إنسان لإشباع حاجات غيره وتحقيق ادخار لغيره على حساب حاجاته هو عين الاستغلال .
إن العمل مقابل أجرة ، إضافة إلى كونه عبودية للإنسان كما أسلفنا ، هو عمل بدون بواعث على العمل لأن المنتج فيه أجير وليس شريكاً .
إن الذي يعمل لنفسه مخلص في عمله الإنتاجي دون شك ، لأن باعثه على الإخلاص في الإنتاج هو اعتماده على عمله الخاص لإشباع حاجاته المادية. والذي يعمل في مؤسسة اشتراكية ، هو شريك في إنتاجها ، مخلص في عمله الإنتاجي دون شك ، لأن باعثه على الإخلاص في الإنتاج هو حصوله على إشباع حاجاته من ذلك الإنتاج ، أما الذي يعمل مقابل أجرة فليس له باعث على العمل .
إن العمل بالأجرة يواجه عجزاً في حل مشكلة زيادة الإنتاج وتطويره ، وسواء أكان خدمات أم إنتاجاً فإنه يواجه تدهوراً مستمراً لأنه قائم على أكتاف الأجراء .
أمثلة على العمل الأجير لحساب المجتمع ، والعمل الأجير لحساب خاص ، والعمل بدون أجرة.
المثال الأول :
(أ) عامل ينتج (10) تفاحات لحساب المجتمع ، ويمنحه المجتمع تفاحة واحدة مقابل إنتاجه ، وهي ما يشبع حاجته تماماً .
(ب) عامل ينتج (10) تفاحات لحساب المجتمع ، ويعطيه المجتمع تفاحة واحدة مقابل إنتاجه ، وهي أقل من إشباع حاجاته .
المثال الثاني :
عامل ينتج (10) تفاحات لحساب فرد آخر ، ويتقاضى أجراً يقل عن ثمن تفاحة واحدة .
المثال الثالث :
عامل ينتج (10) تفاحات لنفسه .
النتيجة :
الأول (أ) لن يزيد من إنتاجه لأنه مهما زاد فلن يناله شخصياً منه إلا تفاحة واحدة وهو ما يشبع حاجاته . وهكذا فكل القوى العاملة لحساب المجتمع متقاعسة باستمرار نفسياً – تلقائياً .
الأول (ب) ليس له دافع للإنتاج ذاته لأنه ينتج للمجتمع دون أن يحصل على إشباع حاجاته ، ولكنه يستمر في العمل بدون دافع ، لأنه مضطر إلى الرضوخ لظروف العمل العام في كل المجتمع . وتلك حالة كل أفراده .
الثاني : لا يعمل لينتج أصلا ، ولكنه يعمل ليحصل على أجرة ، وحيث إن أجرته أقل من الحصول على حاجته، فهو إما أن يبحث عن سيد آخر يبيع له عمله بثمن أفضل من الأول ، وإما أن يضطر إلى الاستمرار في العمل ليبقى على قيد الحياة .
أما الثالث : فهو الوحيد الذي ينتج دون تقاعس ، ودون إجبار . وحيث إن المجتمع الاشتراكي ليس فيه إمكانية لإنتاج فردي فوق إشباع الحاجات الفردية ولا يسمح بإشباع الحاجات على حساب أو بواسطة الغير، وإن المؤسسات الاشتراكية تعمل لإشباع حاجات المجتمع . إذن ،المثال الثالث يوضح الوضعية السليمة للإنتاج الاقتصادي ، بيد أنه في كل الحالات – حتى السيئة منها – يستمر الإنتاج من أجل البقاء . وليس أدل على ذلك من أن الإنتاج في المجتمعات الرأسمالية يتراكم ويتضخم في يد المالكين القلة والذين لا يعملون ولكن يستغلون جهد الكادحين الذين يضطرون إلى الإنتاج ليعيشوا .إلا أنّ الكتاب الأخضر لا يحل مشكلة الإنتاج المادي فقط بل يرسم طريق الحل الشامل لمشكلات المجتمع الإنساني ليتحرر الفرد مادياً ومعنوياً تحرراً نهائياً لتتحقق سعادته .
أمثلة أخرى :
إذا افترضنا أن ثروة المجتمع هي (10) وحدات وعدد سكانه (10) فإن نصيب كل فرد من ثروة المجتمع هو 10\10 = واحدة فقط من وحدات الثروة . ولكن إذا وجد أن عددا من أفراد المجتمع يملك أكثر من وحدة من الوحدات . إذن ، عدد آخر من ذات المجتمع لا يملك منها شيئاً ، والسبب هو أن نصيبه من وحدات الثروة استحوذ عليه الآخرون.. ولهذا يوجد أغنياء وفقراء في المجتمع الاستغلالي .
ولنفرض أن خمسة من هذا المجتمع وجدنا كل واحد منهم يملك وحدتين ، إذن هناك خمسة آخرون منه لا يملكون شيئاً ، أي 50 % محرومون من حقهم في ثروتهم . ذلك لأن الوحدة الإضافية التي يمتلكها كل واحد من الخمسة الأولى هي نصيب الخمسة الثانية .
وإذا كان ما يحتاج إليه الفرد في هذ المجتمع لإشباع حاجاته هو وحدة فقط من وحدات ثروة المجتمع ، فإن الفرد الذي يملك أكثر من وحدة من تلك الوحدات هو مسئول في حقيقة الأمر على حق لأفراد المجتمع الآخرين . وحيث إن هذه الحصة هي فوق ما يحتاج إليه لإشباع حاجاته المقدرة بوحدة واحدة من وحدات الثروة ، إذن هو يستولي عليها لأجل الاكتناز، وهذا الاكتناز لا يتحقق له إلا على حساب حاجة الغير ، أي بالأخذ من نصيب الآخرين في هذه الثروة . وهذا هو سبب وجود الذين يكنزون ولا ينفقون أي يدخرون فوق إشباع حاجاتهم ، و وجود السائلين والمحرومين أي الذين يسألون عن حقهم في ثروة مجتمعهم و لا يجدون ما يستهلكون . إنها عملية نهب و سرقة ، ولكنها علنية ومشروعة حسب القواعد الظالمة الاستغلالية التي تحكم ذلك المجتمع .
أما ما وراء إشباع الحاجات فهو يبقى أخيراً ملكاً لكل أفراد المجتمع ، أما الأفراد فلهم أن يدخروا ما يشاءون من حاجتهم فقط ،إذإن الاكتناز فوق الحاجات هو تعدّ على ثروة عامة .
إن المجدين والحذاق ليس لهم حق في الاستيلاء على نصيب الغير نتيجة جدهم وحذقهم، ولكنهم يستطيعون أن يستفيدوا من تلك المزايا في إشباع حاجاتهم والادخار من تلك الحاجات . كما أن العاجزين والبلهاء والمعتوهين لا يعني حالهم هذا أن ليس لهم نفس النصيب الذي للأصحاء في ثروة المجتمع.
إن ثروة المجتمع تشبه مؤسسة تموين ، أو مخزن تموين يقدم يومياً لعدد من الناس مقداراً من التموين بوزن محدد يكفي لإشباع حاجة أولئك الناس في اليوم ، ولكل فرد أن يدخر من ذلك المقدار ما يريد ، أي له أن يستهلك ما يشاء ويدخر ما يشاء من حصته ، وفي هذا يستغل قدراته الذاتية وحذقه. أما الذي يستغل تلك المواهب ليتمكن من الأخذ من مخزن التموين العام ليضيفه إلى نفسه فهو سارق ما في ذلك شك. وهكذا ، فالذي يستخدم حذقه ليكسب ثروة أكثر من إشباع حاجاته هو في الواقع معتد على حق عام وهو ثروة المجتمع التي هي مثل المخزن المذكور في هذا المثال .
ولا يجوز التفاوت في ثروة الأفراد في المجتمع الاشتراكي الجديد إلا للذين يقومون بخدمة عامة ويخصص لهم المجتمع نصيباً معيناً من الثروة مساوياً لتلك الخدمة … إن نصيب الأفراد لا يتفاوت إلا بمقدار ما يقدم كل منهم من خدمة عامة أكثر من غيره ، و بقدر ما ينتج أكثر من غيره .
وهكذا أنتجت التجارب التاريخية تجربة جديدة كتتويج نهائي لكفاح الإنسان من أجل استكمال حريته وتحقيق سعادته بإشباع حاجاته ودفع استغلال غيره له ، ووضع حد نهائي للطغيان ، وإيجاد طريقة لتوزيع ثروة المجتمع توزيعاً عادلاً حيث تعمل بنفسك لإشباع حاجاتك ، لا أن تسخر الغير ليعمل لحسابك لتشبع على حسابه حاجاتك ، أو أن تعمل من أجل سلب حاجات الآخرين .
إنها نظرية تحرير الحاجات ليتحرر الإنسان .
وهكذا فالمجتمع الاشتراكي الجديد هو نتيجة جدلية لاغير للعلاقات الظالمة السائدة في العالم ، والتي ولدت الحل الطبيعي وهو ملكية خاصة لإشباع الحاجات دون استخدام الغير، وملكية اشتراكية ، المنتجون فيها شركاء في إنتاجها تحل محل الملكية الخاصة التي تقوم على إنتاج الأجراء دون حق لهم في الإنتاج الذي ينتجونه فيها .
إن الذي يمتلك المسكن الذي تسكنه ، أو المركوب الذي تركبه أو المعاش الذي تعيش به يمتلك حريتك أو جزءاً من حريتك ، والحرية لا تتجزأ ، ولكي يكون الإنسان سعيداً لابد أن يكون حراً، ولكي يكون حراً لابد من أن يملك حاجاته بنفسه .
إن الذي يمتلك حاجتك يتحكم فيك أو يستغلك ، وقد يستعبدك برغم أي تشريع قد يحرم ذلك .
إن الحاجات المادية الضرورية الماسة والشخصية للإنسان ، بدءا من الملبس والطعام حتى المركوب ، والمسكن ، لابد أن يملكها الإنسان ملكية خاصة ومقدسة ولا يجوز أن تكون مؤجرة من أي جهة. وإن الحصول عليها مقابل أجرة يجعل مالكها الحقيقي يتدخل في حياتك الخاصة ويتحكم في حاجاتك الماسة ، حتى ولو كان المجتمع بصورة عامة ، فيتحكم في حريتك ويفقدك سعادتك ، وكما يتدخل صاحب الملابس التي تؤجرها منه لخلعها منك ربما في الشارع ليتركك عارياً ، يتدخل أيضاً صاحب المركوب ليتركك على قارعة الطريق. ويتدخل كذلك صاحب المسكن ليتركك بلا مأوى .
إن الحاجات الضرورية للإنسان من السخرية معالجتها بإجراءات قانونية أو إدارية أو ما إليها ، وإنما يؤسس عليها المجتمع جذرياً وفق قواعد طبيعية .
إن هدف المجتمع الاشتراكي هو سعادة الإنسان التي لا تكون إلا في ظل الحرية المادية والمعنوية . وتحقيق الحرية يتوقف على مدى امتلاك الإنسان لحاجاته امتلاكاً شخصياً ومضموناً ضماناً مقدساً.. أي أن حاجتك ينبغي ألاّ تكون ملكاً لغيرك ، وألاّ تكون عرضة للسلب منك من أي جهة في المجتمع ، و إلاّ عشت في قلق يذهب سعادتك ويجعلك غير حر لأنك عائش في ظل توقعات تدخّل خارجي في حاجاتك الضرورية .
أما قلب المجتمعات المعاصرة من مجتمعات الأجراء إلى مجتمعات الشركاء فهو حتمي كنتاج جدلي للأطروحات الاقتصادية المتناقضة السائدة في العالم اليوم ، ونتيجة جدلية حتمية للعلاقات الظالمة والتي أساسها نظام الأجرة والتي لم تحل بعد .
إن القوة التهديدية لنقابات العمال في العالم الرأسمالي كفيلة بقلب المجتمعات الرأسمالية من مجتمعات أجراء إلى مجتمعات شركاء .
إن احتمال قيام الثورة لتحقيق الاشتراكية يبدأ باستيلاء المنتجين على حصتهم من الإنتاج الذي ينتجونه . وسيتحول غرض الإضرابات العمالية من مطلب زيادة الأجور إلى مطلب المشاركة في الإنتاج ، وسيتم كل ذلك عاجلاً أم آجلاً بالاهتداء بالكتاب الأخضر.
أما الخطوة النهائية فهي وصول المجتمع الاشتراكي الجديد إلى مرحلة اختفاء الربح والنقود ، وذلك بتحويل المجتمع إلى مجتمع إنتاجي بالكامل وبلوغ الإنتاج درجة إشباع الحاجات المادية لأفراد المجتمع ، وفي هذه المرحلة النهائية يختفي الربح تلقائيا وتنعدم الحاجة إلى النقود.
إن الاعتراف بالربح هو اعتراف بالاستغلال ، إذ إن مجرد الاعتراف به لا يجعل له حداً يقف عنده . أما إجراءات الحد منه بالوسائل المختلفة فهي محاولات إصلاحية وغير جذرية لمنع استغلال إنسان لإنسان .
إن الحل النهائي هو إلغاء الربح. ولكن الربح هو محرك للعملية الاقتصادية, ولهذا فإلغاء الربح ليس مسألة قرار , بل هو نتيجة تطور للإنتاج الاشتراكي تتحقق إذا تحقق الإشباع المادي لحاجات المجتمع والأفراد .إن العمل من أجل زيادة الربح هو الذي يؤدي إلى اختفاء الربح في النهاية .
المنزل يخدمه أهلـه
خدم المنازل : خدم المنازل سواء أكانوا بأجر أم بدونه ، هم إحدى حالات الرقيق ، بل هم رقيق العصر الحديث . وحيث إن المجتمع الاشتراكي الجديد يقوم على أساس المشاركة في الإنتاج وليس على الأجور ، فإن خدم المنازل لا تنطبق عليهم القواعد الاشتراكية الطبيعية ، لأنهم يقومون بخدمات لا بإنتاج والخدمات ليس لها إنتاج مادي يقبل القسمة إلى حصص وفقاً للقاعدة الاشتراكية الطبيعية، ولهذا فليس لخدم المنازل إلا العمل مقابل أجر ، أو العمل بدونه في الظروف السيئة . وحيث إن الأجراء هم نوع من العبيد وعبوديتهم قائمة بقيام عملهم مقابل أجر ، وحيث إن خدم المنازل هم في درجة أسفل من الأجراء في المنشآت والمؤسسات الاقتصادية خارج المنازل ، فهم أولى بالانعتاق من عبودية مجتمع الأجراء مجتمع العبيد . فظاهرة خدم المنازل هي إحدى الظواهر الاجتماعية التي تلي ظاهرة الرقيق. والنظرية العالمية الثالثة هي بشير للجماهير بالخلاص النهائي من كل قيود الظلم والاستبداد والاستغلال والهيمنـة السياسية والاقتصادية بقصد قيام مجتمع كل الناس… كل الناس فيه أحرار حيث يتساوون في السلطة والثروة والسلاح لكي تنتصر الحرية الانتصار النهائي والكامل .
لذا فإن الكتاب الأخضر يرسم طريق الخلاص أمام الجماهير من أجراء وخدم منازل لتتحقق حرية الإنسان . ولهذا لا مناص من الكفاح لتحرير خدم المنازل من وضعية الرق التي هم فيها ، وتحويلهم إلى شركاء خارج المنازل حيث الإنتاج المادي القابل للقسمة إلى حصص حسب عوامله … فالمنزل يخدمه أهله . أما حل الخدمة المنزلية الضرورية فلا يكون بخدم بأجر أو بدون أجر، وإنما يكون بموظفين قابلين للترقية أثناء أداء وظيفتهم المنزلية ، ولهم الضمانات الاجتماعية والمادية كأي موظف في خدمة عام