الموت

هل الموت ذكر أم أنثى؟ العلم لله..

ولكن الشاعر الجاهلي القديم طرفة بن العبد يعتبره ذكرا حين يقول: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد والشاعر الجاهلي الحديث نزار القباني قال: يبدو أنها أنثى، لأنها اختطفت ابنه(توفيق). لكن لماذا السؤال؟ ماذا يفيد إن كان الموت ذكرا أو أنثى؟فالموت هي أو هو الموت. كلا.. بل من الواجب تحديد جنس الموت، ومعرفة إن كان ذكرا أو أنثى، فإن كان ذكرا وجبت مقارعته حتى النهاية.. وإن كانت أنثى، وجب الاستسلام لها حتى الرمق الأخير.

على كل.. لفظ الموت(المنية)ورد في الكتب، تارة مذكرا، وتارة مؤنثا.وأنا من خبرتي ومصائبي من الموت تأكدت من هذا.. فالموت ذكر، ومهاجم دائما، ولم يكن يوما في حالة دفاع حتى ولو هزم.. وهو شرس وشجاع .. ومخادع جبان في بعض الأحيان.. والموت يهزم ويرد على أعقابه خاسرا مدحورا. ليس كما يظن أنه ينتصر في كل هجوم. كم من معركة مقارعة وجها لوجه، خارت فيها قوى الموت وتراجع مثخنا.. وولى منهزما!! إلا أنه برغم الجراح وا لطعنات، وا للطمات، وا للكمات، وا لركلات ا لتي تصيبه عندما يكون هجومه في مواجهة مقاتل عنيد، فإنه لم يستسلم أبدا ولم يقع في الأسر.. ولم يسقط صريعا . هذا هو السر الخطر. وهذه هي الفائقة القاتلة والماحقة لكل فاعليات الحياة المضادة للموت.

فالموت مقاوم من طراز منقطع النظير حقا. ذو نفس طويل.. وصبر غير محدود، وثقة في النصر على الخصم تصل حد اليقين، مهما بدا خصمه منتصرا، وقويا، وله ركن شديد، ومهما خسر من معارك، ومهما أثخن، وقهر لاتؤثر فيه أصداء مهرجانات فرح الانتصار عليه التي يقيمها المنتصرون الواهمون ذوو الرؤى المحدودة، ولا تجعله تلك المظاهر ييأس ويقرر عدم معاودة الكرة. ياله من جبارذى تصميم لاتراجع فيه!!

قوة الموت ليست في ضرباته المسددة.. ولا في طعناته القاضية أو هجماته المظفرة فهو يخطئ ويصيب.. ويقضى وبفشل، ويهجم ويهزم، ليس كل ضرباته محكمة إطلاقا ولاكل معاركه رابحة.. لكن قوته في قدرته الجهنمية على تحمل واستيعاب وطحن كل تلك السهام والمعاول التي تصيبه، وشهيته الفظة في القدرة على لعق دماء جراحه وصد يدها، وتحويل كل تلك إلى طاقة قتالية نارية تؤدى حتما إلى سقوط خصمه.

وجدارة الموت بالنصر تأتي من كونه غير منحاز، ولا يستعين بأحد، فذلك نقص والموت غير ناقص. وتلك عمالة، والموت يناور ويتلون.. ولكن، لايمكن أن يكون عميلا. فلو اعتمد على أي حليف اخر، لأصبح رهينة، والرهينة ليست حرة، بل هي دمية.. والدمية يلقى بها في سلة المهملات بعد انقضاء الغرض من اللعب بها. ولو أن الموت عميل، أو ذيل، أو رهينة، أو دمية، لكان نصره المؤكد محل شك أكيد، والموت-كما قلت- ليس بطلا أسطوريا ذا مثل عليا، وأخلاق اجتماعية قبلية، وتربية بيتية عظيمة، تجعل صاحب هذه المناقب ملزما أدبيا بالتصرف المثالي حتى لا يمس تلك القيم بخزي. فهو مراوغ، ومتلون، ومتقلب، وقادر على التقمص، والانتحال! قد يأتي فارسا ممتطيا جوادا أبيض شاهرا. سلاحه دون وجل.. وجها لوجه. وقد يطعن من الخلف كما تفعل امرأة غير مدربة على السلاح.. وقد يأتي راجلا دون خوف.. وقد ينقلب منبطحا زاحفا متسترا بالتراب، موغلا في الغش والاختفاء.

كم من ضحية افترسها وهي في غفلة منه هانئة مطمئنة..! وكم من ضحية افترسها وهي نائمة حالمة في سبات عميق..!! وكم من ضحية افترسها وهي ضاحكة مستبشرة لاتفكر فيه..!! فلا تنتظروا من الموت رحمة ولا شفقة، فهو لن يأخذ بخاطركم، ولا يقدر ظروفكم.. ولا يحترم حياتكم، قد ينهش رضيعا من ثدي أمه، يقتله أمامها.. وقد يمد يده إلى داخل بطنها ليخرجه ميتا بعد طول انتظار.. وقد يخطف أحد العروسين في ليلة الزفاف.. وقد يداهم الأبوين، ويترك الأطفال.. وقد يفعل العكس، فهو هاذم اللذاط، وميتم البنين والبنات، كما تقول عنه الكتب الصفراء . إذن، لا ترحموا الموت ولا تستر حموه، فالأمر مقضي بيننا وبينه، فهو عدو لدود، لاصلح معه ولا أمل فيه، فلا ترحموه، ولا تتخاذلوا أمامه، فهو لن يرحمكم، مهما تخاذلتم، واستسلمتم، فهو يرفض المصالحة أصلا، وليس من طبعه التعايش السلمي. لقد قتل إخوتي في عمر الزهور، لقد جوع أسرتي حتى أجبرها على السفر إليه، وأغرى إخوتي باللعب معه في المستنقعات، فسقاهم سم هود فقتلهم!! أربعة أولاد وابنتين، ثم دخل في معارك طاحنة مع أبي الشجاع، وجاء في حملة(مياني) إلى القرضابية، وتقمص أزياء الجنود الطليان والإرتريين. كل ذلك من أجل أن يقتل أبى، أبى الذي بدأ يقاومه بشراسة بعد أن قتل اخوتي. أبى قرر الانتقام من الموت، ومن أجل ذلك قتل العديد من جنود العقيد(ميان) الذي تقمص الموت ملابسهم، حتى أصبح كل واحد منهم هو الموت ذاته.. وكم كانت شدة حيرة أبى عندما يرى استمرار سقوط شهداء الموت يمينه ويساره دون توقف!؟ على أنه في كل طلقة يعتقد أبى أنه قد قتل الموت، حتى أفرغ رصاص نطاقه وصاح: هل من رصاص لأقتل لكم الموت؟ فاجابه شاب منبطح في خندق قريب منه: هاهو نطاقي ملآن بالرصاص، ففرح أبى وأسرع لأخذ مزيد من الذخيرة، ولكن الموت كان أسرع منه، فما إن وصل أبى إلى الشاب، حتى وجده قد فارق الحياة!!

إذن، الموت يسمع ويرى، ولكن أبى كان مقاوما شرسا مثل الموت، أخذ نطاق الشهيد وداوم على مقاتلته، حتى أظمأه العطش، فطلب من عمه(خميس)شربة ماء ليواصل القتال، فهجم عمه على بغل الطليان المحمل بالماء بين صفوفهم؟ لياتيه بشربة منه.. ولكن الموت كعادته كان الأسرع فأطلق رصاصته القاضية على (خميس)فاصابته فوق حاجب العين اليمنى، حتى الدماغ، فتبعثر مخه على جسمه، وسقط شهيدا.. فجن جنون أبى وخرج من الخندق، وقرر القتال واقفا، وتحدى الموت وجها لوجه عندما قال له : (نحن أولاد موسى) إن كنت ذكرا فاخرج إلى أيها الموت الجبان.!! ولكن الموت، لم يستجب للاستفزاز، ولم يرفع يده معلنا عن مكانه، أو يرفع هامته شجاعة.. بل رد بمزيد من الرصاص الملتهب.. لكن الذي استجاب للتحريض ليس الموت، بل مجموعة من الشجعان هتفوا مستجيبين لأبى: (نحن أولاد الحاج.. نحن أولاد الحاج).. وهجموا وقوفا على الموت دون خوف، فأسرع اليهم أبى لينضم إلى هجومهم، ولكن الموت دائما أسرع، فحصدهم برصاصه قبل وصوله إليهم. فلما اشتد النزال بين الموت وأبي طلب منه رفاقه عدم الاقتراب منهم، حتى لا يصيبهم الموت كما أ صاب(خميس) وأولاد ا لحاج.. والأطرش والصهبي.. ومحمد بن فرج.. الخ، واستمر أبى يقاوم الموت، من الصباح حتى المساء، عندما خارت قوى الموت، وضعفت عزيمته، وقرر الفرار، ليعيد الكرة مرة أخرى، ولكنه ترك هذه المرة تسع ضربات بالرصاص في ثياب أبى وجسده، دون أن يتمكن منه.

قلت لكم: إن الموت يهزم ويولى الأدبار،ولا يخجل من الخذلان، ولا ييأس، لأن ثقته بنفسه أقوى من اليأس.. وتأكده من النصر النهائي أعظم من الهزيمة المؤقتة، والخذلان العابر، والسر أن قوته في ذاته، وليست بدعم من أمريكا!

ولم تمض ثلاث سنوات، حتى عاود الموت الكرة، أملا في الظفر بأبي هذه المرة.. ودارت بينهما معركة ضارية أسوأ من القرضابية. وقد انتحل هذا المحتال في هذه الموقعة( قيافة) وهوية مجند في عسكر السنوسي الموالي للطليان في سرت وإجدابيا. واذا كان الموت متحديا هذا اليوم، ومزهوا بكثرة عدده وعتاده، وجازما بالغلبة، فإن أبى أكثر تحديا منه، وإن كان أقل زهوا وأضعف أملا، إلا أنه أكثر استهتارا وأبعد تهورا. فالموت يقهقه.. وهو يرى جند السنوسي يزحفون كالجراد ليحتلوا التباب والوهاد المحيطة بحفرة(كلايا) قرب منجم الملح، ويحولوا لون الرمال الصفراء إلى ألوان سوداء وبيضاء حسب زيهم الرسمي،وقد تغطت المنطقة بمئات الرجال المجندين لمصلحة الموت،ويرى أبى في عدد قليل من(السبائع) وعدد أقل من غيرهم. كان يوما مشئوما عبوسا قمطريرا، من صباحه حتى مسائه.. الموت بكامل استعداده.. وأبى بكامل شجاعته.. الموت حوله جحافل من عساكر السنوسى العميل.. وأبى حوله رهط من الرجال الأشاوس الشرفاء.. وحيث إن الموقف سيئ، والنجاة ميئوس منها، والمعركة غير متكافئة، قرر أبى القتال بلا تحفظ.. وأعلن استهانته بالموت وجيشه وما قد يصير.. فلم يحفر خندقا، ولم يرم من وضع الانبطاح، بل اتخذ وضعي البروك والوقوف.. وقد امتزجت الشجاعة واليأس، وما أروع امتزاجهما! وما أقساه على الحياة!! لكن ضربات الموت تصيب الرفاق دونه، تماما كما فعلت يوم القرضابية . فها هو أبو إصبع مضروب على قلبه.. وهاهو قذاف الدم في الرمق الأخيرو وها هي الشمس تنحدر على رأسها نحو الأرض، كأنما أصابتها رصاصة طائشة.. بعد قليل سيخيم الظلام وتضيع فرصة العمر.. فعربد الموت وهو يتميز غيظا على أبى الذي يتحداه منذ الصباح، فصوب عليه بندقية (موسكوف)كان قد زوده بها قيصر روسيا، وتأكد من إصابة القلب، ولكنه أخطأ فأصاب كتفه من الأمام إلى الخلف، محدثا خرقا خطرا في الجهة ا ليسرى.

قلت لكم.. ليست كل ضربات الموت مسددة، ولاكل طعناته قاضية، فهو يخطئ ويصيب، ويقضى ويفشل،وإن كان قد أفقد أبى القدرة على مواصلة القتال، وسبب له شللا جزئيا مستديما، لكنه لم يفقده حياته حتى هذه المرة.

قلت لكم: إن الموت ليسق شجاعا دائما، وليس مواجها في كل الحالات.. وإنه جبان في بعض المرات.. ويطعن من الخلف، ويقرص من الرنجل، ويغوص في التراب.. فبعد أن أعياه النزال ومقارعة الأبطال في معارك تصادمية، كالملح والقرضابية، ولم يتغلب على أبى ويقتله.. وحيث إن الموت اللعين- كما أكدت لكم لا ييأس.. ولا يترك خصمه مهما غلب، فهاهو يتقمص حية رقطاء، في واد خال غير ذي زرع ولاماء، فينهش عقب أبى بكل غدر وخيانة وجبن، في أعماق ظلام ليل بهيم، تحت جذع طلحة صحراوية ذات أشواك قديمة مرعبة.

هذا هو الموت الرهيب ممتطى الحصان الأسود في ساعة الغضب الشديد، والجواد الأبيض في لحظة التحدي السافر العنيد.. الموت الذي شهر سيفه في وجه القادة العظام دون خوف أو وجل. هاهو يتواري عن الرؤية، ويأتي من الخلف، لا بالمواجهة، ومن تحت، لا من أعلى، ويعض لا يطعن، وينكمش لايبرز، ويقطع الأعقاب بدل الرقاب. هكذا تحول الموت الرهيب الذي يملأ رعبه الافاق، تحول أمام أبى هذه المرة إلى حية خبيثة سامة وإن داسها بقدمه القوية الخشنة، إلا أنها قدرت على لسعه في تلك القدم، وظن الموت أن هذه هي الحيلة القاتلة، والخطة الماكرة. فبعد فشل المبارزة، يضطر الموت الى المواربة.. وبعد المجابهة في وضح النهار، هاهو يتخنس من وراء ستار. واعتقد أن حية صحراوية تلدغ إنسانا وحيدا في واد بعيد، حيث لا مستصرخ له.. قاضية بموته حتما!! هكذا كانت تدابير وتوقعات الموت المغرور بقطعية انتصاره، وغاب عنه أن إرادة الحياة تدمر تدابيره، وتخيب تخميناته، وأن تلك الإرادة قادرة على إبطال مفعول السم الزعاف بطبيخ الشاي الأحمر المعتاد، وأن عدة جرعات من ذلك الشاي الأحمر المطبوخ ودون سكر، وعدة تقيؤات، جعلت أبى يهب واقفا منتصرا على الموت المحقق منذ لحظات، ساخرا منه شامتا به، دائما على رأس تلك الحية الملعونة التي تقمصها الموت في تلك الفيافي البعيدة.

ولكن الموت-كما قد عرفنا من هذه القصة- لا يموت ولا ييأس مهما أثخن وهزم، فالحية قتلها أبى برجله القوية غير المرتعشة في القتال، أو في دوس الحية بالنعال..فهي دائما ثابتة وقوية فوق أرض المعركة أو فوق رأس الحية. بيد أن الموت هرب مسرعا من تحت قدم أبى، وتقمص حية أخرى كانت موجودة في طريق أبى وهو عائد إلى بيته، فعندما مد يده إلى قش شجيرة، ليوقد به النار، مسكت به تلك الأفعى الثانية، وأفرغت لعابها القاتل في يده حقنة واحدة!! وحيث إنه يعوزه الشاي الأحمر هذه المرة، وفي بقعة ليست موحشة، وبعيدة كالمرة السابقة، فإن الموت ظن أن تلك عوامل ضعف، لأنها خالية من بواعث التحدي التي كانت متوفرة، عندما كان الموقع بعيدا، وأبى فريدا، وموته يومئذ مأساة، كل ذلك مدعاة لمغالبة الحقيقية، وتسخير كل إمكانات الإرادة لقهر مشيئة الموت. أما هذه المرة، فالناس موجودة حوله، وفكرة الاتكال على الآخرين، والطمع في مساعدتهم له، تجعله فاقدا لأسلحة المقاومة والتحدى، وبالتالي توقع الموت أن خصمه العنيد لن يفلت منه هذه المرة، ولكنه نسى أن طريقته الخبيثة هذه غبية، من ناحية أخرى فهو قام بتطعيم أبى ضد سم الأفاعي، بتكراره لدغه بها دون أن يدرى. وهكذا لم تؤثر فيه اللسعة الثانية إلا تأثيرا خفيفا مؤلما، ولكنه غير قاتل.

إن أبى يطول عمره.. والموت يطول نفسه.. أي يستمر عناده.. والموت لا يتوقف عن اصطياده. إلى هذا الحد في تتبعنا لهذه القصة الدرامية، يمكننا القول: إن الموت ذكر حقا في كل المواقف.! وإنه أنثى في مواقفه الأخيرة.. ولكن الأمر اشتبه علينا.. فحتى عندما تحول إلى أفعى أنثى، كان يستوجب المقاومة كما لو كان ذكرا.. فالحية السامة عدو لدود، وحيث إنها عدو، إذن هي في حكم الذكر.. وبالتالي كانت مقاومتها، مثلها مثل الجندي الإرتري أو الطليان يوم القرضابية. ونحن بصدد التأكد من هوية الموت: هل هو ذكر أم أنثى كما بدأنا القصة.. وقلنا: إن كان ذكرا، وجبت مقاومته حتى النهاية، وإن كان أنثى، وجب الاستسلام لها حتى الرمق الأخير.

وحتى الان في هذه القصة، أبى يقاوم، ولم يستسلم، إذن، والحال هكذا فالموت ذكر. ولكنى تأكدت أخيرا من أنه أنثى،لأن أبى قد استسلم لها حتى الرمق الأخير يوم8 من مايو 1985م. ولم يحرك ساكنا لمقاومتها، ولأول مرة أراه مستسلما في المقاومة، بل يرفض أحيانا أي تدخل ضد الموت، بل يدافع عنه، مما يدل على أنه أنثى، بل أنثى من النوع القديم الذي قال فيه القرآن(ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين)، فهو يدافع عنه ضد أي تدخل عندما كان قادرا على المقاومة.. واستسلم له بعد ذلك استسلاما هادئا، كأنه ليس هو الموت المخيف، كأنه ليس ذلك الفارس الممتشق الحسام الذي يبعث مظهره على التحذى بالنسبة لرجل شجاع كأبى..

وكأن طبول الموت- وهي تدق على وتيرة متصاعدة- ليست إلا أغنية مخدرة تلقيها أم كلثوم، فكلما اقترب موكب الموت، وتعالت دقات طبوله المزعجة، استرخى أبى فوق سريره، وابتسم بلا معنى بالنسبة لنا ابتسامة طفل في المهد.. وأصبح أكثر هدوءا وطمأنينة، حتى خيل لنا أن ضجيج موكب الموت الذي يرعب الأصحاء بدنيا، هو أغنية مخدرة لأحد المشهورين المغنين المصريين بالنسبة للمرض، وحتى ظننت أنه لا يلزم مخدر كيماوي لمعالجة المريض، وإنما تكفي أغنية مصرية طويلة.. ولكن الطبيب اعترض على ذلك، ورفض التدخل في اختصاصه، حيث أكد أن استنتاجاتي كلها سقيمة وبعيدة كل البعد عن الحقيقة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال الركون إليها.. وخجلت أمام علم التخدير الذي لا أعرفه، ولكنى أنقذت الطبيب من الحرج، وأكملت بنفسي ما كان يجب أن يقوله وهو صحيح، ولكنه أحجم، حيث واصلت نيابة عنه أني جاهل في عملية التخدير جهلا تاما، وأني خلطت بين تخدير الأصحاء وغير الأصحاء، وأني بالغت في مفعول الأغاني المصرية، حتى اعتقدت أنها تؤثر على المرض، والصحيح أنها تؤثر على الأصحاء فقط، ومشهود لها من عام 1948 م بالفاعلية والتأثير، وقد جرى تجريبها على أكثر من مائة مليون عربي، وأثبتت نجاحا مدهشا؟ ولكن لسوء الحظ- وهو عكس ما توقعت- لابد من استعمال المخدر الكيماوي للمرضى عند المعالجة الجراحية وما إليها. وثبت أن المرضى بدنيا لاتؤثر فيهم تلك الأغاني، بل إن الأطباء ينصحون بعدم إسماعها لهم خشية أن تسبب بعض المضاعفات مثل القيء.. أما الأصحاء ومن في حكمهم كالمرضى نفسيا وعقليا، فينصحون بسماعها إذا أرادوا أن يدخلوا في غيبوبة صناعية، أو تخدير غير كيماوي. وأكد الأطباء أنه لامضاعفات لها بالنسبه لهم، وإن كانت لها مضاعفات غير كيماوية طبعا فستكون على قضية هؤلاء الناس وعلى إنتاجهم، أما أجسامهم فلا خوف عليها منها. وعندما لاحظت أنها قد تؤثر على النفس أو العقل، رد الطبيب دون اكتراث قائلا: النفس.. العمل.. المزاج الخ، أشياء معنوية لاتهمني كجراح.

على العموم، إن أبى يسترخى، ثم يسترخى، بينما نحن نتشنج، ونتمزق جزعا وألما، ونبكى في بعض الأحيان، وهو يبتسم وينشرح وسط غيبوبة الموت. يا ترى!! هل هو الموت الذي كان يقاتله في معركة القرضابية وتالا ويوم الملح؟! وهو الأفعى السامة التي تربصت به في صحراء خالية وفي مناسبات أخرى؟! أهو الموت العدو اللدود المتحدى.. الواثق المغرور الذي يبعث تحديه وثقته على الاستفزاز والتهور؟! لا أعتقد أنه هو، وإن كان هو، فهو ناجح في الخداع إلى درجة ليس لها مثيل. إذ إن أبى لم يقاومه هذه المرة، كما كان طيلة عمره، القاهر له، المنتصر عليه،برغم ما كانت تتوفر للموت من عدد وفرص قاتلة. إذن،الموت أنثى. وإن كان كذلك، فيجب الاستسلام له حتى الرمق الأخير، وهذا ما فعله أبى.

النتيجة، هي أن الموت يفشل في المعركة في معظم الأحيان عندما يأتي في سحابة من النقع، وألوية سوداء خفاقة في قلب العاصفة. إن الموت في هذه الحالة-وهو يظن أنه يركب جواد الرهان الرابح- إنما يركب جواد الغرور؟ لأنه بهذا يدفع خصمه على التحدي والاستهتار، الأمر الذي يؤدى إلى هزيمته. ولأنه في تلك الكيفية، يظهر كرجل شجاع للغاية، تجب مقاومته، حتى النهاية، والمقاومة تقود في أغلب الأوقات إلى النصر. أما المرات الخطرة التي يصل فيها الموت إلى غايته بسهولة، فهي التي يتحول فيها إلى أنثى. والأنثى يجب الاستسلام لها حتى الرمق الأخير كما أكدنا في بداية القصة.. فالاستسلام لا يوصل إلى النصر أبدا، والموت عندما يغير أسلوبه، يتوخى من خصمه الاستسلام في حالة ظهوره كأنثى. وبالتالي ينتصر بلا مقاومة من خصمه .

وهكذا، فالموت واصل إلى غايته لامحالة، مهما طال الصراع، ولا يرحم خصمه مهما استسلم.. ومهما جبن.. وأبدى من ضعف ومسكنة حتى ولو أصبح ساداتيا!!. فعليكم مقاومة الموت لإطالة أعماركم، مثل أبى الذي لم يستسلم له يوما، وقاتله دون خوف منه؛ حتى بلغ عمره مائة سنة، برغم أنف الموت الذي أراد أن ينهيه في الثلاثين.. فالموقف الصحيح هو المواجهة، أما الهروب حتى إلى الخارج، فلا ينجى من الموت..“أينما تكونوا يدر ككم الموت ولوكنتم في بروج مشيدة..” ولكن إذا ضعف الموت نفسه، وتحول إلى أنثى غير جماهيرية وغير لاتينية.. وجاء حريما مستسلما بلا سلاح، ودخل بسلام وبإغراء وسكينة حتى أحسسنا به في كل ذرة من جسمنا وأسكرنا بهواه.. وأخذ يدغدغنا، حتى يضحكنا ونحن في سكرته، فليس من الرجولة مقاومته ومقارعته حينئذ.. بل من الواجب الاستسلام له حتى الرمق الأخير وهذا ما كان….!